إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ (5)
هذه الانتقالة، وبعكس العديد من الانتقالات غير المفهومة في القرآن، تبدو منطقية هنا، لأنه إذا ثبت لنا أو هكذا اعتقدنا أن الله موجود، ثم علمنا أنه ربنا، وأنه رحمان رحيم بنا، وأنه محاسبنا ومجازينا ثوابا أو عقابا، في يوم أحد أسمائه وفق لاهوت الدين هو يوم القيامة، فلا نملك إلا أن ندين لهذا الإله والرب بالعبودية، مع نفي العبودية بأي مقدار لغيره. وتقديم المفعول بالضمير المنفصل (إياك) يؤدي معنى الحصر، أي نعبدك وحدك ولا نعبد غيرك. والعبودية بمعناها الأعم والعبادة بمعناها الأخص تستلزم الذل والمهانة عادة، لكن العبودية لله لا تستلزم المذلة والمهانة، لأن العلاقة بين الإنسان كمخلوق ومملوك وعبد وعابد، وبين الله كخالق مالك سيد ورب ومعبود، علاقة طبيعية. وخاصة فلسفة التوحيد التي تستلزم نفي العبودية بالمطلق لغير الله هي عين العز والكرامة التي تتحقق للإنسان عبر رفضه أن يكون عبدا أو عابدا لأي شخص أو إله أو صنم أو قوة أو سلطة، وهذا ما عبرت عنه مقولة تنسب لعلي «كفاني فخرا أن تكون لي ربا، وكفاني عزا أن أكون لك عبدا». لكننا سنجد أن الإسلام أكد التوحيد نظريا، ونقضه عمليا، كما سنجد في سياحتنا البحثية مع القرآن. إذ جعل الدين نفسه أي الإسلام إلها يعبد من دون الله، فيطاع في معصية الله في كثير من الأحيان، وهكذا هي العلاقة مع الرسول، التي أكد القرآن من جهة على صفتين له أساسيتين، هما بشريته وعبوديته لله، فهو بشر، وهو عبد لله، ولكن إذا تبين لنا أن تشريعاته ليست تشريعات الله، فستكون طاعته في غير طاعة الله. أما إذا ثبت لنا أنه رسول مرسل من الله، فمن الطبيعي أن تكون تشريعاته هي تشريعات الله، وتكون طاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله، ولكن لننظر هل سيتبين لنا من خلال سياحتنا القرآنية رسولية محمد وإلهية القرآن، أم سيتبين لنا ما يوجب نفي ذلك، أو يوقفنا في خط اللاأدرية في مواجهة الإسلام والقرآن ومحمد. يبقى أمامنا سؤالان: الأول سبب التحول من ذكر الله بضمير الغائب (هو) إلى ضمير المخاطَب (أنت)، والثاني سبب اختيار صيغة الجمع للمتكلم (نحن)، بدلا من المفرد (أنا)، بقول «أعبد»، «أستعين»، «اهدني»، بدلا من «نعبد»، «نستعين»، «اهدنا». بالنسبة للسؤال الأول فنقول إن المؤلف قد أبدع، بقصد أو صدفة، على الأقل في هذه السورة خلاف التحولات غير المنطقية في الكثير من آيات القرآن؛ نقول أبدع هنا، من حيث يقصد، أو من حيث لا يقصد، وبالذات في هذه السورة، في هذا التحول من حمد الله بالضمير الثالث، إلى دعائه بالضمير الثاني، فيما إذا عنى ما استوحيناه من ذلك. الذي يمكن أن نستوحيه من ذلك، هو أن الوقوف بين أعظم وجود يستوجب التصاغر، مما يجعل المخاطِب لا يجرؤ على مخاطبة المخاطَب مباشرة، بل يذكره بضمير الشخص الثالث تعظيما، كما كان في الماضي مألوفا أن يقف المواطن العادي أمام الملك، فلا يخاطبه بـ(أنت)، بل يقول مثلا «هل يأذن لي جلالته بالكلام؟».