عجباً لأولئك الذين يجعلون من القرآن الكريم كتاباً ميتاً، او كتاباً تاريخياً تسرد فيه مجموعة من القصص والمواعظ والحكم البالغة التي انتهى مفعولها في زمن التطور التكنولوجي، حيث العالم اليوم أحوج للإنترنت والفضائيات. فما الفائدة من كتاب لا يوجد فيه الحديث عن “فيسبوك”، او تطبيقات الهواتف الذكية..؟!!
هذا النوع من الطرح انتشر في السنوات الاخيرة، والتي منها ايضاً عجز القرآن وعدم امكانيته في ان ينفع البشرية في هذا الزمان، لان ما وصل إليه الانسان من تطور لم يكن بحسبان احد، وهذا يعني ان الله عندما خلق البشرية لم يكن يعلم ان الانسان سيتطور الى هذه الدرجة لكي يضع له قوانين و أحكام يسير عليها وتنفعه في القرن الواحد والعشرين..!
وفي ظل هذا الكم الهائل من التراكم في المعلومات والتقنيات؛ يتسائل البعض: ما فائدة الحديث عن الكافرين ، والمنافقين..؟ وما فائدة الحديث عن موسى، و فرعون، وسليمان وملكه في الارض؟ ، ثم ألم ينتهي الكافرون والمؤمنون ؟ بل يعتقد هؤلاء اننا في عصر ذهبي، لا نحتاج فيه للدين، حيث لا وجود لدعوات الكفر والالحاد، كما كان في العهود الماضية.
من العجب ان نغالط انفسنا والآخرين بمثل هذه المغالطات، فنحن نعلم، وهم يعلمون جيدا ان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الخبير، الأعلم بالخلق من غيره، فكيف يمكن ان نتصور ان الله تبارك وتعالى وحاشاه ان يكون عاجزا عن معرفة تطور البشر في يوم ما؟ وكيف نتصور ونعتقد ان الله قد انجز عملاً وخلق خلقاً يشوبه النقص او الخطأ؟ بل هو قادر على كل شيء، ويخلق بإتقان وابداع، فهو خلق الكون وفق سنن ونواميس ثابتة، فهذه الجاذبية، التي لولاها لما سكن على الارض شيء، ولما استقر عليها ماء، وكذلك سائر الموجودات، والتناسق والاتفاق العظيم بين كل المخلوقات في هذا الكون الواسع المختلف في الالوان والاشكال.
ايضاً هناك من يتخذ من آيات القرآن الكريم محلاً للاستهزاء، فتراه يبحث عن الآيات التي تناقض بعضها البعض في الظاهر، دون أدنى رجوع او معرفة، ان لهذا الكتاب علوم كثيرة منها علم الناسخ والمنسوخ، الذي يكشف لنا عن الغموض وسبب اختلاف بعض الآيات، بعد ان يبين لنا الآيات التي نسختها آيات أخر، او قراءة الآيات التي نزلت بحق المسيح واليهود الذين ماتوا قبل ان تشرق شمس الاسلام، بطريقة سطحية دون أدنى تفكير او تأمل، فقد كفل لهم الله تبارك وتعالى الحساب العادل وفق اديانهم، فكل واحد منهم يُدان بدينه الذي اعتنقه قبل نزول الاسلام. لكنهم يقرأون قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة/ 62). ويعتقدون ان الله يقبل من الانسان أي دين شاء واعتنق واعتقد، والهدف الاول والاخير المرجو من الانسان هو عبادة الله الواحد الاحد من خلال اي دين شاء..! وهم يعتبرون ان هذا التفسير لا غبار عليه، بينما لو قرأنا وقرأوا قوله تعالى: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (سورة آل عمران/ 85)، وهذه الآية المباركة كفيلة بالرد على هذا النوع من الاعتقاد الذي بات منتشراً اليوم عند البعض والذي من خلاله يشككون في احاطة القرآن الكريم وشموليته.
ينبغي ان نعلم ان الله تعالى قد انزل في كتابه الكريم على أمة النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دستوراً الهياً متكاملاً و شاملاً ، وفيه الحديث عن سنن الخلق والخطوط العامة للحياة وما بعدها، وقصص وعبر واحكام تحاكي واقعنا، وليس لجزئيات الامور وصغرياتها، بل هو يتحدث عن الخطوط العامة التي يجب ان يسير على اثرها الانسان لتوخي السقوط والانزلاق في الخسران. فهو يتناول في الجانب العقائدي، توحيد الخالق وعدم الكفر والشرك به، وهذه المسألة ثابتة لا تتغير ، كما يتحدث الله تعالى ان السنن الثابتة في الحياة، منها مثلاً: غلبة الحق والمؤمنون، والثواب والعقاب في الدنيا قبل الآخرة، وغيرها كثير، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل.
ان اغلب الشبهات التي تدور حول الدين بصورة عامة، وحول القرآن الكريم بشكل خاص، هي قائمة على اساس واحد، وهو هوى النفس، وحب الدنيا والانبهار بزخرفها، وهو ذات السبب الذي دفع بالطواغيت وأعوانهم الى محاربة الرسالات الالهية، ومن اجله ايضاً حارب المشركون القرآن الكريم حين نزوله، وكذبوا دعوة النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهم لا يريدون ان يروا، سوى هذا الجانب السطحي من الحياة، فهي شغلهم الشاغل، لذلك هم يبتعدون ويُبعدون كل ما يذكرهم بالمسؤولية، والاخرة ، والحياة ما بعد الموت، ثم يدّعون انهم اقرب الى الله بعمارة الارض على حساب الاخرة، وبإلغاء الدين، والتوجه الى الله بدون اي وسيلة اخرى، وكأن الله قد انشطر وتعدد، لكي يتخذ كل طائفة الهاً على مقاسه ، يناسب افكاره وما تريده نفسه.