24 ديسمبر، 2024 11:39 م

القدس في عين الزمن: السرد البصري لمدينة لا تنطفئ

القدس في عين الزمن: السرد البصري لمدينة لا تنطفئ

ظلت القدس، المدينة التي تتشابك فيها الأزمنة وتتقاطع الثقافات، وجهةً لعشاق الضوء والظل، يطارد المصورون فيها سرَّ الجمال الذي يكمن خلف تعقيداتها واشتباكاتها. منذ أن دخلت أولى الكاميرات ساحاتها في منتصف القرن التاسع عشر، والمدينة تحتفظ بذاكرةٍ بصريةٍ حية مدهشة، مشبعة برائحة التاريخ وألوان الحياة. عبر عدسات محلية وغربية، تشكلت لوحات فوتوغرافية تحكي عن القدس بأوجهها المتعددة: مدينة الأديان، ومسرح السياسة، وعاصمة الثقافة. هذه الصور وثائق تاريخية، وقصائد صامتة، تسكنها روح المدينة وحنين أبنائها.
بداية التصوير الفوتوغرافي في القدس
في منتصف القرن التاسع عشر، وجدت القدس نفسها وجهًا لوجه مع عدسة الكاميرا، هذا الاختراع الذي بدأ يوجه مشاهد الواقع نحو الخلود. كانت هذه الحقبة، بأحداثها وشخوصها، ساحةً لاكتشاف أداة التصوير في سياق مدينة تحمل سنابك التاريخ وتشهد على تعقيداته.
يروي بعض المؤرخين أن الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكه كان أول من خطا بهذه العدسة في القدس بين عامي 1839 و1842، بينما يشير آخرون إلى أن الفرنسي جوزيف فيلبيرت التقط أول صورة معروفة للمدينة عام 1844، خلال رحلته في الشرق الأوسط. وبين الروايتين، يبقى الأكيد أن تلك الفترة كانت بداية دخول القدس في أرشيف الذاكرة البصرية العالمية.
لم تكن القدس حينها مجرد مدينة، بل كانت فكرة مقدسة . وبهذه الفكرة جذبت الحجاج والمستكشفين الأوروبيين الذين جاؤوا بأحلامهم وعدساتهم، ليجدوا مدينة تتمازج فيها الروحانيات والضوضاء اليومية. وهنا ظهرت أسماء مثل فيليكس بونفليس وجيمس روبرتسون، اللذين قدّما للعالم لقطات خلّدت أسواق القدس، أزقتها الملتوية، وأبراجها التي تشق نسيج الزمن وتعبر الى الأبد.
لكن الغريب أن هذه الصور، رغم أنها حملت رؤية أوروبية للمدينة، لكنهاتجاوزت ذلك في البعد الجغرافي. كانت تلك العدسات تسجل القدس كما رآها الغرب، لكنها في الوقت ذاته منحت المدينة نافذة تطل منها على العالم، لتتحول الصورة إلى أداة اتصال جديدة بين حضارتين، وسجلٍّ مرئيٍّ يروي بأسلوبه الخاص تفاصيل الحياة اليومية في قدس القرن التاسع عشر.
البعثات الفرنسية والبريطانية
رسمت البعثات التصويرية الأولى إلى فلسطين، وهي تمزج الفن والعلم والاكتشاف، ملامح البدايات الأولى للتوثيق البصري للقدس ومعالمها المقدسة. البداية كانت مع البعثة الفرنسية التي انطلقت من الإسكندرية في رحلة عابرة للأزمنة، يقودها المصور فريدريك غوبيل فيسكه والرسام هوراس فيرنيه، اللذان عبرا العريش وغزة والخليل والناصرة حتى وصلا إلى القدس. هناك، التُقطت أول صورة للمدينة، لتُنشر لاحقًا في باريس عام 1841، في كتاب شكل نافذة فنية وثائقية للعالم، وركز على جماليات المعالم الدينية مثل قبة الصخرةالمشرفة..
وفي الأفق البريطاني، كان ألكسندر كيث يسير على درب مشابه، ولكن برؤية مختلفة. من خلال عدسته، جمع نحو ثلاثين صورة للقدس، ليستكشف العلاقة بين النصوص المقدسة والجغرافيا. أعماله تجسدت في كتابه “براهين على حقيقة الدين المسيحي”، حيث ضمَّن فيه 18 صورة تُعمق النقاش اللاهوتي. بعده، جاء البريطاني كلود بوس ويلهاوس ليصنع لحظة فارقة عام 1849، عندما التقط أول صورة طبعت على الورق في منطقة المتوسط، وضمنها مشاهد من القدس، تاركًا بصمة أخرى في ذاكرة التصوير الضوئي. هكذا، صارت عدسات هؤلاء الرواد بوابة لنقل القدس من أزقتها القديمة إلى مساحات الذاكرة العالمية.
التصوير البريطاني: عدسة استعمارية على القدس
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أخذت القدس مكانة خاصة في دوائر المعرفة الاستعمارية البريطانية، فكانت الكاميرا وسيلة لرسم خرائط الجغرافيا والسياسة والتاريخ على حد سواء. في عام 1865، قاد الضابط تشارلز ولسون فريقًا من سلاح الهندسة البريطاني لتنفيذ دراسة شاملة عن القدس ومحيطها. كانت المهمة جزءًا من مشروع أوسع، يهدف إلى جمع المعلومات بدقة علمية لاستخدامها في الخطط الاستعمارية المستقبلية. حمل ولسون عدسة فوتوغرافية، هي الأولى من نوعها في تسجيل ملامح المدينة المقدسة بصور قوامها الضوء والظل، المترابط مع تقنيات هندسية متقدمة.
في ذات السياق، لمع اسم فرنسيس فريث، أحد رواد التصوير الفوتوغرافي البريطاني، الذي لم تقتصر عدسته على القدس، بل امتدت إلى مصر وسوريا. بين عامي 1859 و1860، وثّق فريث تلك البلاد عبر صور جسّدت رؤية استشراقية رومانسية، جعلت الشرق يبدو وكأنه لوحة تقتات على دهشة الغرب الفيكتوري. كانت الصور، التي نُشرت في كتب مصورة، تقيم علاقة مشوهة بين الجمال المستلب والسلطة التي تستعد للهيمنة.
المصورون المحليون: العدسة التي تحدّثت بلغة المكان
بالتوازي مع التغلغل الغربي، ظهرت عدسات محلية تمثل أهل القدس، سردًا بصريًا مختلفًا، يخلو من التحيز الرومانسي ويغوص في يوميات المكان وأهله. كان خليل رعد، أول مصور عربي محترف في فلسطين، نموذجًا فذًا لهذا التوجه. وُلِدَ عام 1854، ونذر حياته لتوثيق الأزقة والأسواق، والبسطاء الذين شكلوا نسيج المدينة.
تميّزت صور خليل رعد بواقعيتها، حيث عكست تعابير الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة. لم تكن عدسته متجمدة عند المعالم الأثرية أو المناسبات الاستثنائية؛ بل التقطت نبض الأزقة، حرفة الحرفيين، ووجوه النساء والأطفال في البيوت والأسواق. كانت صوره شهادة حيّة على هوية المدينة في زمنها الأصعب، في ظل تغييرات جذرية شكلت حاضرها ومستقبلها.
كان خليل رعد مؤرخًا بصريًا تحدى الاستشراق بعدسته، ومنح الحياة اليومية مكانتها كجزء لا يتجزأ من تاريخ القدس. كانت صوره تكسر الحواجز بين الحاضر والماضي، وتُقدم تراثًا بصريًا فلسطينيًا يواجه محاولات التغيير القسري للهوية والثقافة.
الأرمن في القدس: عدسة الذاكرة
ظلت الجالية الأرمنية في القدس، على مرّ العقود، شاهدة على تفاصيل المدينة ومعالمها، مستخدمة عدسات الكاميرا كنافذة توثق وتُخلد ملامحها. في بدايات القرن العشرين، برز المصور حنّا تومايان، الذي استطاع عبر استوديوهاته أن يحوّل البورتريه إلى مسرح صغير، يظهر فيه زبائنه بملابس ترمز للتنوع الثقافي، من الأزياء البدوية إلى أزياء رام الله التقليدية.
ومن الشخصيات المؤثرة في هذا المجال، يبرز الأسقف الأرمني جرابيديان، الذي حمل شغفه بالتصوير من باريس إلى القدس، مؤسسًا أول مدرسة للتصوير الشمسي في العالم العربي داخل دير الأرمن في البلدة القديمة. تحوّل جرابيديان إلى معلمٍ ترك بصماته على جيل من المصورين، أبرزهم إيليا قهوجيان، الذي أسس “إيليا فوتو ستوديو” في عقبة الخانقاة. هذا الاستوديو بدأ كمجرد مشروع تصوير؛ ثم تحولإلى نقطة انطلاق لتراث بصري ما زال نابضًا حتى اليوم، عبر أسماء مثل “غارو” و”كيفورك كريكوريان”.
نساء العدسة: إحياء التفاصيل الفلسطينية
كسرت النساء حواجز العدسة في فضاء اعتاده الرجال ، ومنهن كريمة عبود، ابنة الناصرة التي عبرت عدستها حدود المكان والزمن. أسست استوديوها الخاص في بيت لحم ، والتقطت مشاهد تعكس الحياة الفلسطينية اليومية: الحقول، العائلات، والزوايا المخفية التي تروي الحكايات البسيطة التي تشكّل الهوية. عدسة كريمة لم تكن مجرد امرأة بلا وقت ، ولا هاوية من هواة التصوير والتقاط المشاهد ؛ بل أسست بمشروعهاأرشيفًا بصريًا يوثق فلسطين كما كانت قبل النكبة.
ومع تبدل الأزمان، ورثت نساء أخريات هذا الإرث، مثل عرين ريناوي ورولا حلواني، اللواتي حملن كاميراتهن بشجاعة، مصممات على سرد قصص القدس بأسلوب يجمع بين الإبداع والاحترافية. عبر أعمالهن، تتجدد ذاكرة المدينة، لتبقى الصور حارسةً للحقيقة ومرآةً للروح.
. دور التصوير في تشكيل السرد البصري للقدس
منذ أن التقطت أولى العدسات صورها للقدس، بدأت رحلة طويلة من التوثيق البصري الذي تجاوز كونه مجرد حفظ لحظات زمنية إلى بناء سرديات أعمق تعكس روح المدينة وصراعاتها وتفاصيل حياتها اليومية. المصورون، سواء كانوا غربيين أو من أبناء القدس، لم يكونوا مجرد شهود على تاريخ المدينة، بل كانوا صُنّاعًا لرؤية خاصة بها، زاوية أخرى في قصتها المتعددة الوجوه.
فالقدس ليست مجرد موقع مقدس، بل هي حلبة للصراعات والتطلعات، مشهد مركب من القداسة والإنسانية. استوعبت عدسات المصورين هذا التعقيد، قدمته بأشكال مختلفة؛ أحيانًا عبر لقطة هادئة لزقاق حجري، وأحيانًا عبر وجه مُتعب يعبر عن تحديات الحياة تحت ثقل الزمن والصراعات السياسية. التصوير لم يكن محايدًا، بل كان جزءًا من نسيج السرد؛ يستخدم لتوثيق الظلم، للاحتفاء بالأمل، ولتقديم القدس كرمز عالمي للصمود والتنوع.
الخاتمة
عبر العصور، كان التصوير الفوتوغرافي مرآة تعكس ليس فقط ما تراه العين، بل أيضًا ما تحسّه الروح. في القدس، هذه المرآة اكتسبت بُعدًا جديدًا؛ أصبحت أداة لفهم أعماق المدينة وتعقيداتها، لغة بصرية تسرد القصة التي لا تستطيع الكلمات دائمًا إيصالها.
واليوم، في عصر تتلاحق فيه الصور بوتيرة غير مسبوقة، تبقى صور القدس محتفظة بخصوصيتها. كل صورة تروي حكاية عن مدينة ما تزال تعيد تعريف نفسها وتجدذثُ هويتها كل يوم. هذا الإرث البصري كنز يجب حمايته، ليس فقط لأنه يوثق الماضي، بل لأنه يمنح المستقبل وسيلة لفهم الحاضر. التصوير في القدس ذاكرة حية، صوت خفي يعيد صياغة قصتها للأجيال القادمة، ويؤكد أن المدينة، بكل تناقضاتها وأحلامها، ستظل حيّة في عين وذاكرة العالم.