يتخوف عراقيون كثيرون من اشتعال حرب أهلية في العراق، نتيجة المأزق الذي وصله الصراع الحامي بين التيار الصدري وجماعة الإطار التنسيقي. أو بعبارة أدق، بين عناد مقتدى وعنجهية نوري المالكي، والذي لم يعد فيه مخرجا سوى الاقتتال. ويخطيء هنا هؤلاء الكثيرون حين يتوهمون بأن الحرب التي قد تشتعل قريبا ليس فيها مقومات حرب أهلية، لا عراقية عراقية، ولا حتى ىشيعية شيعية، لأن كلا الفريقين ليس له في الشعب العراقي، ولا في الطائفة الشيعية، سوى النزر اليسير. فلكي تتخذ الحرب المتوقعة في بغداد وبعض المحافظات صفة الحرب الأهلية ينبغي أن تكون بين نصفين من الشعب تعذر التفاهم بينهما، فبدأ الاقتتال في كل زاوية من الوطن، شماله وجنوبه، شرقه وغربه، ويشارك فيها كل مواطن، إما بحمل السلاح، أو بواجب الدعم والمساندة. أما الذي يدور اليوم في العاصمة، تحديدا، حول المنطقة الخضراء، فليس سوى خلاف بين فريقين سياسيين صغيرين في غياب الملايين العراقية التي لا ترى لها في هذا الخلاف ما يعنيها، رغم أنه أضر بمصالحها وعطل عجلة حياتها، فهو اقتتال بين فريقين مختلفين على مصالح حزبية، ومكاسب أسرية، وعلى هيبة شخصية، يسترانها بذريعة الدفاع عن الطائفة والدين والوطن، وكلاهما في ضلال مبين. فمن الحقائق التي يحاول الطرفان تزويرها هي أن صافي المجموع الكلي والنهائي للصدريين محدودٌ بمناطق معينة عراقية، وبشريحة محددة من سكان هذه المناطق، وبالتالي فإن عدد المنتمين الصادقين المستعدين للموت في سبيل زعيمهم لن يكون أكثر من بضع مئات ألوف، في أبعد تقديرٍ، وهو ما يجعلهم فئة قليلة لا تصمد أما العاصفة إذا ما جد جد الشعب العراقي وانتفض وثار. والشيء نفسه يقال عن خصومهم الإطاريين. فهم ليسوا سوى فئة قليلة فضحت هزالها تظاهراتُهم الفقيرة البائسة التي كشفها بيان الإطار الذي حث أتباعه على الخروج مقابل نقل مجاني وطعام ومكفأة مالية مجزية، وهذا دليل فاقع على شعور قادته بضعفهم وعزلتهم عن شعبهم، وقلة حيلتهم التي تبينت بوضوح. فلو طرحنا من المنتسبين إلى الإطار والتيار جميع الانتهازيين الذين انضموا حفاظاً على مرتب حالي، والطامعين في وظيفة قادمة، والراغبين في ارتداء ملابسهم وحمل سلاحهم وركوب سياراتهم من أجل التسلط على الناس وإرهابهم وابتزازهم، أو لأسباب عديدة أخرى متنوعة، فلن تبقى معهم عند المواجهة سوى قلة قليلة لن تصمد في أي اقتتال. فصافي عدد الصدريين العقائديين، وصافي عدد الإطاريين المخلصين الصامدين، بمختلف أحزابهم ومليشياتهم وفصائلهم، لن يكون أكثر من مليون مقابل ثمانية وثلاثين مليونا من العراقيين الصامتين المتربصين الناقمين على هؤلاء وهؤلاء. ولا أدل على الخوف من المواجهة من بيان أصدره وزير مقتدى، والذي قد يكون هو مقتدى نفسه، يدعو جماهير الشعب العراقي إلى نصرته، فيقول، “نعم، أعوّل عليكم وأتوسّم منكم الشجاعة وعدم الخذلان. فهي نهاية الفرصة الأخيرة، وذلك من خلال مظاهرة سلمية مليونية موحدة من جميع محافظات العراق ومناطقه وقراه وأحيائه، بل ومن كل أزقّته ومنازله”. بالمقابل جاء البيان الأخير الذي أصدره الإطار التنسيقي ردا على دعوة الصدر دليلا على الخوف من الهزيمة، خصوصا حين توسل جماهير الشعب العراقي، فقال، “إننا اذ نوصي بضبط النفس وأقصى درجات الصبر والاستعداد فإننا ندعو جماهير الشعب العراقي المؤمنة بالقانون والدستور والشرعية الدستورية الى التظاهر السلمي دفاعا عن الدولة وشرعيتها ومؤسساتها وفي مقدمتها السلطة القضائية والتشريعية، والوقوف بوجه هذا التجاوز الخطير والخروج عن القانون والأعراف والشريعة”. و”الدولة وشرعيتها ومؤسساتها الدستورية والسلم الأهلي خطٌ أحمر، على جميع العراقيين الاستعداد للدفاع عنه بكل الصور السلمية الممكنة”. طبعا مع العلم بأم كليهما لم يقصرا في العبث بالدولة وشرعيتها ومؤسساتها، وفي إهانة السلطة القضائية واحتقار سلطة القانون. في حالة واحدة قد يشهد الوطن العراقي حربا أهلية حقيقية إذا ما انضم التشرينيون، جميعهم، إلى المعركة، لا لإعانة التيار على الإطار، ولا لنصرة الإطار على التيار، بل لقلعهما معا، والخلاص من فسادهما وتبعيتهما وقلة حيائهما ومن عهدهما غير الرشيد. والخطأ الشائع الذي يقع فيه كثيرون هو اعتقادُهم بأن (الشعب التشريني) هو النخبة الشبابية الشجاعة النبيلة التي تظاهرت في تشرين 2019، في بغداد والمحافظات الأخرى، إذا أردنا الدقة والأمانة. فبرغم شجاعة الأبطال المتظاهرين وتضحياتهم وصمودهم، وبرغم جرائم الغدر والخطف والاغتيال التي ارتكبها بحقهم الصدريون والإطاريون، بشكل أو بآخر، إلا أنهم ليسوا هم الانتفاضة كلها. فانتفاضة تشرين التي اعتقد الصدريون والإطاريون بأنهم أسكتوها وجعلوها شراذم متنافسة على القيادة والاستفادة ليست هي، فقط، المئات، ولا حتى الآلاف التي أرعبت الأحزاب الفاسدة الحاكمة، بل هي أكبر وأوسع وأعمق بكثير.
فهي موجودة حيةً في كل منزل عراقي انتهك حرمته الإطاريون والصدريون، وإن اختلفت المقادير. وهي مشتعلة في قلب كل مواطن عراقي عربي كردي شيعي سني مسلم مسيحي سَرق منه الإطاريون والصدريون حريته وكرامته ورزق عياله، أو أجبروه على الهجرة عن وطنه وأهله وأرضه وهوائه ومائه. وهي كل عراقي ذاق مرارة انتهازية حكومات الأحزاب والتجمعات والتيارات والائتلافات المتشاركة في الوليمة، منذ أيام الغزو الأمريكي ووريثه الاحتلال الإيراني، وحتى اليوم. ومن آخر الأخبار أن صالح محمد العراقي المعروف بـ “وزير الصدر”، دعا إلى “زحف مليوني” نحو العاصمة بغداد، فقال “هذا ندائي الأخير. وقد أبرأت ذمّتي أمام ربّي وأبي وشعبي، بعد أن انقسم الإحتجاج الى فسطاطيْن. صار لزاماً عليَّ أن أتحرّى أيَّ الفسطاطيْن أكثر عدداً وأوسع تعاطفاً عند الشعب العراقي”، “فالقرار قرار الشعب، إما الاصلاح، وإما فــسادٌ لا يزول، وتبــعية تتجذّر لتمحو كل ما تبقى من خيراتكم وكرامتكم”. تُرى، هل يقرأ التشرينيون هذه الدعوة ويفكوا رموزها؟، وهل يدركون أن يدهم هي العليا، وأن كلمتهم هي الأخيرة؟ فإن لم يعلنوها، اليوم، صريحة ماحقة ساحقة فسيكون الإطاريين والصدريين قد قتلوا الانتفاضة مرة ثانية، وربما إلى أبد الآبدين.