23 ديسمبر، 2024 3:16 م

القبيلة والدولة المدنية

القبيلة والدولة المدنية

هناك جدلية برزت في بداية القرن المنصرم بين نشوء الدولة المدنية وعلاقتها بالقبيلة ككيان يشكل جزء من المنظومة الاجتماعية للبلدان العربية مما ساد انطباع لدى الاوساط الثقافية والمتعلمة فيها بان القبيلة تشكل عائق وحائل دون نشوء هذه الدولة المدنية في بعض هذه البلدان ذات المناخ القبلي ..كما حدث في اليمن ابان حكم الرئيس الراحل ابراهيم حمدي 1974 الذي دام  لثلاثة سنين وسعيه في بناء دولة مدنية وتاسيس مجتمع مدني قادر على التحرر من سلطة القبيلة والتي انتهت محاولته بالفشل بعد ان طاح به النظام القبلي باغتياله عام 1977..وذهب ضحية لهذه الجدلية المعقدة التي حاول فيها اذابة مجتمع ذا نظام قبلي مغلق ضمن دولة مدنية تكون السيادة فيها للقانون ، مما شكل نوع من التصادم وصراع ايديولوجي بين الموروث والحداثة وبين قوة الدولة وقوة القبيلة التي ارتبطتا مع بعضهما البعض بعلاقة عكسية ..كما يشير الدكتور علي الوردي في لمحاته ..ان قبائل عرب العراق المحيطة بالمدن الكبير والساكنة على اطرافها كانت تتحين الفرص لحدوث مشاكل وازمات داخلية تضعف الدولة في فترة حكم الدولة العثمانية له (1532_1918) ..مما يؤدي الى اضعاف سلطتها فتنقض على تلك المدن لنهب ممتلكات الدولة ومخازنها ..وللتعامل مع القبيلة في مجتمعاتنا العربية بطريقة يمكن ان تنتج مجتمع مدني في ظل وجودها فان لابد من دراسة ومعرفة جذورها ونشأتها والعوامل والحيثيات التي كانت سببا في وجودها وديمومتها ..لقد عرف ابن خلدون القبيلة في مقدمته بقوله (هي تجمع ينشئ بطريقة لاشعورية من اجل صياغة علاقة تعاون والتحام ..وان الاتصال بين افرادها هو علاقة طبيعية وقاعدة انسانية وهي موجودة في طباع البشر وان لم يكونوا من نسب واحد )..اي ان تكون القبيلة هو عبارة عن ميكانزم حتمي تفرضه الطبيعة البشرية الميالة الى التعايش مع الاخر..ويعزي ابن خلدون على ان المكان من اهم اسباب تكون القبيلة ، وعرف عن شبه الجزيرة العربية التي تعتبر مهد القومية العربية بانها من اقدم التجمعات السكانية ذات الطابع القبلي وقد سكنتها القبائل السامية التي امتهنت الزراعة والصيد والرعي بين (900_2500 ) قبل الميلاد وتحديدا في العصر الهيلوسيني حسب دراسات بعض المستشرقين في القرن التاسع الهجري ، الذين اكتشفوا هذه الحضارة عن طريق النقوش المكتشفة هناك بشكل علمي وليس اعتمادا على السرد التاريخي الذي نقله المؤرخون ، والذي يذكر ان العرب هم اول الاقوام السامية في هذه المنطقة وان صيرورتهم وانتشارهم في المنطقة الممتدة من العراق الى شمال افريقيا مرت بثلاث مراحل كانت على شكل هجرات تباعدت بينها الازمنة واختلفت فيها الاسباب والدوافع ..ويذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب الجزء الاول ..بعد طوفان نوح تجمع الناس في بابل وهي ليست مدينة بابل التي في العراق ومن ثم ضربها زلزال قوي فانهار صرحها وتبلبلت السنة الناس فيها  وتفرقوا عنها الى اصقاع الارض ، ولم يحدد المسعودي مكان بابل او زمن انهيار صرحها ..فنطق تسعة من ولد سام ابن نوح العربية ، وارتحلوا الى شبه جزيرة العرب ، رحل قحطان الى جنوبها اليمن وخرج منه القبائل العربية القحطانية (العرب العاربة ..والاخرون  (طسم وجديس وجرهم وعاد وثمود والعماليق والعبد الاسود)..ارتحلوا الى شمالها ومنهم نشئت قبائل العرب البائدة لانهم تلاشوا عن الوجود بسبب الحروب والكوارث الطبيعية والامراض واللعنات الالهيه ، وقد ذكر القران الكريم البعض من قصصهم ..ثم كانت للعرب صيرورة اخرى بعد الهجرة الثانية التي نتجت عن انهيار سد مأرب في اليمن وتفرق القبائل ونزوح معظمها الى شمال الجزيرة العربية نجد والحجاز ، وبمجيئ النبي اسماعيل وامه هاجر الى الى هذه الارض نطق اسماعيل العربية نتيجة الاختلاط والمصاهرة مع القبائل العربية التي كانت تسكن هناك فخرجت منه سلالة (العرب المستعربة) من ولد عدنان ..وقد عرفهم ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) الجزء الاول ..(هم ولد اسماعيل الذين خالطوا عرب شمال الجزيرة العربية فنطقوا العربية )..والهجرة الثالثة كانت بعد الفتح الاسلامي في منتصف العقد الثاني من الهجرة وفيها ارتحلت  الكثير من القبائل العربية عن شبه الجزيرة العربية باتجاه العراق ومصر وبلاد الشام وشمال افريقيا ، وقد جمعت  هذه القبائل عدة مشتركات على اختلاف انتمائها العرقي والقبلي مثل اللغة والاعراف والتقاليد وبعض الخصال الجيدة ..كالكرم والجود والنخوة والاجارة..والتي سميت بمكارم الاخلاق حتى ان النبي محمد (ص) قال في الحديث الذي رواه البخاري  في الادب المفرد (انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق )..الا انه بالرغم من هذا التسامي في الاخلاق ظهرت بينهم عادات سلبية لازالت قائمة الى وقتنا هذا ومنها العصبية القبلية ، التي عرفها الازهري في كتابه تهذيب اللغة..(ان يدعو الرجل لنصرة عصبته والتألب معهم على مناوئيهم ظالمين كانوا ام مظلومين )..واما ابن خلدون فقد عرفها في مقدمته (بانها النعرة على ذوي القربى واهل الارحام ان ينالهم ضيم اوتصيبهم هلكه )..وقد حاول الاسلام اذابة الكثير من هذه السلبيات التي تشوب الحراك الاجتماعي للعرب في الجاهلية ..فعمد على طرح مفهوم الامة مقابل القبيلة وجعلها البودقة التي يمكن ان تنصهر فيها ويكون المعيار والتفاضل فيها بالعمل الصالح والتقوى بقوله تعالى في سورة الحجرات..(يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير )..وكذلك ركز النبي (ص) على التقليل من حدة العصبية القبلية السائدة في مجتمعه بقوله في الحديث الذي اخرجه مسلم في صحيحه  ..(من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة او يدعو لعصبة او ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية )..وعل الرغم من تصدي الاسلام لهذه السلبيات الا انه لم يعمل على اقصاء او القضاء على القبيلة بل تبناها واحتواها وجعلها جزء من مشروعه الدعوي بقوله تعالى في سورة الشعراء..(وانذر عشيرتك الاقربين)..ان هذا الاهتمام من قبل الاسلام بالقبيلة ولدت حالة من الامتزاج الفطري لدى العرب وشكل موروثا حضاريا تداخلت في الخنادق بين ماهو عرفي وماهو ديني لذا اصبح من الصعب تجريدهم من احدى ركائزهم المهمة وهي القبيلة ..وفي مجتمعنا العراقي ذو التعدد الفسيفسائي والذي يظغى عليه الطابع القبلي ، يجب فيه على المثقفين والنخب البحث عن الاليات والصيغ التي تجعل من الممكن ولادة دولة مدنيه فيه في ظل وجود القبيلة كعنصر مؤثر وفعال في حراكه الاجتماعي،  والتعاطي معها على انها جزء من المنظومة القيمية والاعتبارية واحدى ادوات اشاعة ثقافة التعايش السلمي والسلم الاهلي ، على ان يظل عملها ضمن هذا النطاق ولا يتعداه الى ماهو من صلاحيات الدولة التي هي المسؤولة على اشاعة روح العدل والمساوة بين افراد المجتمع دون تمييز ناتج عن اختلاف بالعرق او اللون او المعتقد ..هذه الدولة التي يكون الجميع فيها خاضع لنفس القوانين والمعايير الاجتماعية والانسانية تحت مظلة كبيرة تدعى المواطنة.