قبل أعوام طويلة مضت قدم إلى احدى المدارس التي تقع في حي من احياء بغداد الفقيرة طالب منقول من مدرسة اخرى تقع في مكان اخر ، كان ابيض البشرة نظيف الثياب وبدا مختلفا في ملامحه وهيأته عن بقية الطلبة وظهرت على سيماءه إمارات الترف والراحة ، فهو اذا من اولئك الأشخاص الذين ينحدرون من أحد الأحياء الراقية في مدينة بغداد وليس له صلة بمثل هذه الأحياء الفقيرة التي يعاني الغالبية العظمى من سكانها شظف العيش ، وقد كان لنقله الى هذه المدرسة اسباب حكى لزملائه عنها في وقت لاحق وعلى أية حال فإن وجود شاب جديد يستدعي فتح حديث ما للتعرف عليه فاقترب منه احد الطلبة وسأله عن القبيلة التي ينتمي إليها هذا الطالب ، فما كان منه بعد ان تردد لبرهة الا ان يجيبه بانه لا يعرف اسم القبيلة التي ينتمي إليها وذلك ما جعله مثار سخرية بقية الطلبة الذين ضحكوا عليه غير مراعين لمشاعره ، فاضطرب الشاب المترف وشعر بالخجل الشديد وذلك ما اضطره الى ان يذكر اسم احدى القبائل المعروفة مدعياً انتماءه لها فقط لينجو من سخرية أولئك الطلبة الفقراء وضحكاتهم الوقحة ! ، وقد ذكرت هذه الحادثة وانا اكتب هذه السطور فهي التي جعلتني أدركت في حينها مدى تجذر الثقافة القبلية والعشائرية في مجتمعاتنا على حساب الثقافة المدنية والحضارية .
ان القبلية هي داء خطير يصيب أبناء الامة الواحدة والشعب الواحد وأي داء اخطر من الذي يفكك أواصر المجتمع ويقسم ابناءه الى مجموعات كل منها تنتمي الى قبيلة ويكون ولاء كل فرد فيها بل وربما حتى اكثر من ولاءه لله سبحانه وتعالى ، كما ان هذا الداء يزرع بين ابناء المجتمع الواحد الحقد والبغضاء بعدما هداهم الله الى التآلف والى سواء السبيل ، وهي أيضاً عودة للجاهلية التي بعث الله رسله لتخليص الناس منها وبناء المجتمع صالح الذي تزول فيه هذه العلل التي عادت إلينا بقوة في هذه الايام بسبب ابتعاد الناس عن جادة الصواب فتفرقوا الى جماعات وتشتتوا الى فئات وذلك بعد تهاوي مشروع الامة الواحدة وانحطاطها السياسي منذ عقود طويلة وبالتالي هيمنة الغرب ثقافيا واقتصاديا وحتى عسكريا على معظم البلدان الاسلامية . ان لانتشار هذا الداء في جسد الأمة على حساب المدنية والتحضر أسباب كثيرة ومتعددة ناقشها الباحثين والكتاب من قبل وأسهبوا الكتابة عنها من أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها لكننا سنحاول هنا ان نؤكد على ان السبب الطائفي الذي بات ومنذ أعوام طويلة هو احد اهم تلك الأسباب ، ففي مجتمع منقسم تسوده النزاعات الطائفية والعرقية اصبح السؤال عن قبيلة الانسان هو احدى الطريقة الذكية للسؤال عن طائفته او ديانته بطريقة ذكية غير مباشرة لا تثير الحرج كما هو الحال في السؤال المباشر وهذا ما يقوم به الكثير من الناس ، وفضلا عن ذاك فإننا نعتقد بان غياب مشروع الدولة الموحدة التي تسود فيها العدالة الاجتماعية والتي توفر لمواطنيها حياة امنة كريمة هي احدى الأسباب المهمة في شيوع الثقافة والقيم القبيلة . وان تحقق ذلك سكون كفلا بعلاج هذا الداء الخطير الذي انهك جسد الامة وكاد ان يفتك بها ، وحتى ذلك الحين لا ينبغي علينا القعود والتفرج على هذا الانهيار المجتمعي والتأخر المؤسف عن ركب الحضارة بل الواجب على كل انسان واعي ان يعمل على محاربة هذه الثقافة وان يكون هنالك حث لمنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والثقافية فضلا عن وسائل الاعلام على التوعية بخطورة هذا الداء وضرورة التوعية بأخطاره ، فما هلكت امة ظلت تقاوم أي داء يغزو جسدها وهل تأتي مقاومة العلل الا من الوعي والثقافة والمعرفة ، اذا فليكون دأبنا التوعية بأهمية هذا الامر ولنتذكر جميعا بان القبيلة لا ترفع من اذله الله وانه ليست معيارا لتفضيل انسان على اخر عنه ولنذكر قوله تعالى في كتابه الكريم : (يا أَيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أَتقاكم إن الله عليم خبِير) .