18 ديسمبر، 2024 7:51 م

القبلية الأدبية.. ما بعد التجييل

القبلية الأدبية.. ما بعد التجييل

بعد أن تخلصنا من عقدة التجييل التي ترسخت في ستينات وسبعينات القرن الماضي بسبب اصطفافات أيديولوجية، يحاول البعض اليوم جرنا إلى القبلية في الأدب.
ما إن ينشر أحدهم رأياً ما بقضية أدبية حتّى تنهال عليه ردود الأفعال الغاضبة التي يحركها الانتماء القبلي أكثر من القناعات الأدبية أو وجهات النظر المخالفة أو الجدلية.

يحدث الأمر في الغالب انطلاقاً من شعور الارتياب وعقلية المؤامرة، الناتجة بدورها عن التركيبة النفسية لدى البعض ممن ارتضوا أن يكونوا ردّ فعل متحفز وجاهز للانطلاق ويتحين الفرص لينفجر بوجه “فاعل” ما مهمته ابتكار الأفكار وفتح نوافذ الجدل أو تشخيص خلل ما بغية إصلاحه.

كتّاب ردود الأفعال هؤلاء ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا كذلك طالما هم غير قادرين على إنتاج فعل ما، فتقتصر مهمتهم على انتظار من ينتج ذلك الفعل كي يتحركوا بالاتجاه المعاكس، ولا أدري في الحقيقة فيما إذا كان المبدع الحقيقي معنياً بذلك أم لا، أو أن الأمر له علاقة بطبيعة إبداعه أم لا.

لكن في جميع الأحوال تبقى قضية طرح الرأي أو الفكرة، مهما كانت طبيعتها أو تطرفها أو الرؤى التي تسوقها، حقاً للمبدع خارج إطار عمله الإبداعي.

ولعلني أشير بهذا الخصوص إلى مقالة الروائي الجزائري واسيني الأعرج عن فكرة إنشاء ما أسماه موسوعة للرواية العربية توثق وتقدم النماذج الروائية العربية للعالم.

لكنه أهمل ذكر قائمة بالروائيين العراقيين “العظماء” الذين تجاوزهم بطريقة “لا تُغتفر” لتتفجر ردود الأفعال المتأهبة للدفاع عن شرف القبيلة في كل حين ضده، الأمر الذي اضطره إلى كتابة ملحق آخر للمقال يعدد فيه مناقب الروائيين العراقيين خوف أن يُفهم قصده خطأً على أنَّه لا يقيم وزنا للرواية العراقية، على الرغم من أن ذلك من حقه الشخصي كمثقف ومبدع وقارئ.

ما أريد قوله هنا هو أن الرواية العراقية، أو الجزائرية أو المغربية، ليست سلّة بيض واحدة ينبغي صونها والرقود عليها وفق طقوس قدسية معينة، إن جل أمراض الإبداع العربي سببها تلك الاعتقادات الخاطئة في الحقيقة، فبعد أن تخلصنا من عقدة التجييل التي ترسخت في ستينات وسبعينات القرن الماضي بسبب اصطفافات أيديولوجية خارجة عن إطار الإبداع في الغالب، يحاول البعض اليوم جرّنا إلى القبلية في الأدب، فيتحدث عن رواية عراقية وأخرى مغربية ككتلة واحدة موحدة يسدّ نقص ضعيفها فائض قويّها، كي تبدو للآخر من الخارج على أكمل وجه، وكأن هؤلاء الروائيين على مقاس واحد وتقنيات واحدة.

وإذا كان الأمر كذلك فمن سمع عن الرواية الكولومبية مثلاً خارج إطار ماركيز؟ ومن سمع عن الرواية الأفغانية خارج إطار عتيق رحيمي؟ وفي المحصلة تبقى التجارب الروائية تجارب شخصية بحت تستند بالدرجة الأساس إلى ثقافة ووعي وقدرات الروائي ذاته، وعلى الرغم من أنّها نتاج تجربته في محيطه ومجتمعه، إلّا أنَّها بالدرجة الأساس تجربة شخصية بحت تأخذ شكلها وتكويناتها من مدركاته الحسية والنفسية وشخصيته المتفردة.

وإذا كان الأمر هنا يتعلق بالمناطقية والتصنيف الوطني أو الجغرافي، فإنه بالتأكيد لا ينطبق أيضاً، أو من الأجدى ألّا ينطبق، على ما يسمى الرواية العربية، كما لو كانت وحدة فنية واحدة، إلّا في حال قصدنا بذلك الرواية التي تُكتب باللغة العربية تحديداً، فبالتأكيد هناك روايات عربية مختلفة ومغرقة في محليتها وطبيعة مجتمعها والعلاقات السائدة في ذلك المجتمع، وإلا ما الفرق بين الرواية المغربية مثلاً والفرنسية أو الإسبانية من حيث الثيمات والتقنيات سوى اللغة.
نقلا عن العرب