22 ديسمبر، 2024 11:16 م

يبعث مشهد الأطفال الذاهبين إلى مدرستهم كل صباح شيئاً من الأمل في غدٍ أفضل حتى وإن لم تكن لدينا جميعاً ذكريات ٌ جميلة عن مدرستنا، فنرى تطور الحياة واختلاف الزمن وطريقة التفكير وإعادة صياغة مشهدٍ كامل بين البارحة واليوم بمختلف مكوناته، وتحول ماكان بالأمس من الكماليات إلى شيءٍ أقل من عادي مقارنةً بكل ما هو مستحدث ومرهق لعقل الآباء وجيوبهم عدا عن أبعاده النفسية والإجتماعية والثقافية على أطفال اليوم..

فإذا مشينا في شوارع أي بلد ٍ عربي سنرى التبدل والتباين الكبير بين مظهر الناس ومتطلباتهم ومشاعرهم وأفكارهم وحالتهم النفسية إذا ما قارناه بعقد التسعينات على سبيل المثال والذي بات يبدو أبعد بكثير مما نعتقد، بشكلٍ عابر للثقافات والأعراق والأديان والطوائف حيث طال هذا التغير جميع الفئات دون استثناء، وكان يحلو للعائلات أو الأصدقاء المقربين في تجمعاتهم التي باتت نادرة في زمننا الحالي أن يعقدوا المقارنات بين الأجيال والمراحل من كل الجهات وعلى كل الأصعدة بدءاً من الطعام والملبس مروراً بالظواهر الإجتماعية والسياسية والشكل الذي آلت إليه الآداب والفنون وانتهاءاً بالوضع الإقتصادي الذي يحكم قبضته على الجميع..

وعندما نعقد المقارنة من الناحية الجمالية فقط آخذين بعين الإعتبار كل المتغيرات والتطور الذي نعيشه، سنلحظ ثورةً رقمية وتحولاً إلكترونياً ينقل كل ماهو واقعي وملموس إلى افتراضي وبعيد، لكنها لم تقدم أي خطوةٍ إلى الأمام ولم تضف شيئاً أو بعداً جمالياً جديداً على أيٍ مما نعيشه، بل أصبحنا نرى الكثير من المظاهر القبيحة والنشاز البصري وحالة عدم التناغم في كل شيء، سواءاً كان ذلك في تصميم المعمار والطرقات أو في نوع وشكل الثياب التي يرتديها الناس أو حتى قصات الشعر، والتي تظل ضمن إطار الحرية الشخصية لكنها فعلياً لا تتمتع بشكلٍ جمالي يمكنه أن يكون مرجعاً للأجيال القادمة تماماً كما كان هناك شكلٌ جمالي ميز العقود السابقة، كما أصبح هناك نوع من الميل أو التلذذ بتشويه الأفكار الجميلة والإرث الجميل (تحت مسمى التجديد) الذي لا يزال ملاذاً لنا اليوم من حالة القبح التي نعيشها والتي لا علاقة لها بالوضع المادي، بل هي مسألةٌ مرتبطة بتدهور الذوق العام والذوق الشخصي وعدم اهتمام الأهل بتنمية الذوق والحس الجمالي لدى أطفالهم كأي سلوكٍ حميد آخر، حيث ينبغي أن يتعلم الطفل وإن كان من أسرةٍ متواضعة أن يتذوق كلماته ويختار مظهره وينتبه لسلوكياته ويحترم المساحة الشخصية لكل إنسان ويحافظ على نظافة الأماكن العامة، وهذا ما نستطيع أن نسميه بالتربية التي يتجلى فيها الفرق بين حامل المرتبة العلمية وبين المثقف الذي يعي عاقبة سلوكه وانعكاسه على غيره..

وللأسف الشديد إذا قام أي منا نحن البالغين بجولةٍ عابرة على القنوات المخصصة للأطفال سيجد اختفاء الجمال والبراءة حتى في الرسوم المتحركة، والتي باتت تتعمد تسويق الأشكال الممسوخة والمخيفة وبث رعب خفي في نفوس الأطفال، وتقديم أعمالٍ تخلو من أي جمال حتى على صعيد الصورة، والتي بدورها أصبحت تملأ الشاشات والأسواق مصحوبةً بالكثير من الأفكار المشبوهة ضمن أعمال يفترض أنها تستهدف من هم دون العاشرة من العمر، فبدلاً من تقديم أعمال مستوحاة من الطبيعة وألوانها مصحوبةً برسوم الحيوانات والتي تؤدي جميعها إلى تطور الذائقة والإدراك والنمو النفسي السليم للطفل وجعله معتاداً على رؤية الجمال، بتنا نرى كائنات ٍ بعينٍ واحدة وشكلٍ منفر وهو ما لا ينفصل عن المشهد العام ككل، ولا ينفصل عن وضع الثقافة والفنون والآداب وتأثرها بكل المتغيرات والتي تنعكس على كافة جوانب حياتنا..

وبالعودة إلى مشهد الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم في بداية المقال نتسائل اليوم عن الإرث الثقافي والجمالي الذي سيتركه جيلنا لهم بكل أبعاده ومعانيه.. خصوصاً مع تعمد خلط الكثير من المفاهيم لإحلال القبح والنشاز في كل ما نراه.. فمعنى الجمال تحول إلى الإثارة، والدلال أصبح شكلاً من الميوعة، والجرأة باتت تجارةً وتجسيداً في الكثير من الأحيان للإبتذال، والشعبي بات مصطلحاً مرادفاً للسوقية لدى الكثيرين، فيما ينعت الجمود لدى البعض بالأصالة، ويعتقد البعض الآخر أن الفوضى هي جوهر الحرية.. فهل سنستطيع مقاومة ما يحيط بنا من عبث ؟ وهل سنترك لأطفال اليوم إرثاً يتسلحون به في المواجهة الحامية والمستمرة بين القبح والجمال ؟ هذا ما ستجيب عليه الأجيال بنفسها عندما تسترجع المرحلة التي نعيشها كما نفعل الآن..