23 ديسمبر، 2024 6:00 م

القبانجي صوت شجاع لا يرهب الاعتقال

القبانجي صوت شجاع لا يرهب الاعتقال

قد نختلف ونتفق بحدود نقاط القوة والضعف لمشروع الاستاذ احمد القبانجي الثقافي والمعرفي.. تماسكه او تخلخله.. اتفاقنا معه واختلافنا مع رؤيته، لكننا لابد من الاعتراف بانه يشكل علامة فارقة بارزة في مشهدنا الثقافي العراقي ما بعد سقوط الدكتاتورية ونظامها الفاشي البدوي، فالدعوة للمطالبة باطلاق سراحه من السجون الايرانية لابد أن تتضمن دعوة متواصلة للدفاع عن الحريات وكذلك هي فرصة لاستجلاء أبرز ملامح هذه العلامة الثقافية الفارقة ويكمن بعضها في النقاط التالية:

انه يعد من القلائل الذين تصدوا لانتقاد ومواجهة المؤسسة الدينية ورجالها ومن الذين لا تأخذهم لومة اللائمين في تصويب هذه المؤسسة وكشف عوراتها للناس رغم ما تحتله هذه المؤسسة من مكانة لدى العامة من الشعب واتباعها ومريديها تصل لحدود التقديس لدى بعض اتباعها والمستفيدين من هذه الاخطاء والتكلسات وبهذا يعد القبانجي حلقة في سلسلة الغرباء الذين تصدوا لمؤسسة دينية ظهرت على جدرانها التكلس وترهات المناهج المتوارثة من القرن التاسع عشر والسيدة على مراكزها العليا ومدارسها القرووسطى من قبل ثلة من أشباهه المتعلمين وانصاف المثقفين ولم يعدم ذلك بروز كفاءات فكرية ومعرفية لكنها تعد على أصابع اليد على مدار تاريخها منذ التاسيس.

فالقبانجي يصطف غريبا في مشروعي الانتقادي مع غربة محسن امين العاملي وعبدالحسين كاشف الغطاء ومحمد باقر الصدر ومحمد جواد مغنية وغيرهم من سلسلة الاصلاح والتنوير الذين لاقوا ما لاقاه القبانجي من تسفيه لأفكارهم وتخوين لمبادئهم من داخل المؤسسة الدينية قبل خارجها، وهذا ثمن وضريبة الشجاعة في مواجهة القبح الفكري والتكلس العقائدي الذي عادة ما ينتعش ويظهر بقوة في المؤسسات الدينية وحواضنها التابعة لها.

أثبت القبانجي من خلال عدم تهيبه من الظهور بقصد توصيل آرائه وأفكاره لأكبر قاعدة عريضة من المتلقين من خلال القنوات فضائية والصحف والمجالس الثقافية، دون تحفظ والجهر بارائه الجسورة في مراجعة ثوابت العقيدة والطقوس المصاحبة لها ووجهات نظره التي تبدو شاذة وغريبة في مفاصل حساسة من العقيدة الدينية ومنها القران والجنة والنار ومفاهيم الثواب والعقاب، حيث يعتبر القبانجي الصيرورة الزمنية وضرورات التحديث الانساني ومواكبة لحظات التقدم أهم بكثير من التشبث بثوابت يقينية لا ينعكس الايمان بها إيجابا على واقع معاش يمور ويغلي بازماته الاقتصادية والثقافية والسياسية وتشكل المعضلة الدينية وتوابعها احد أبرز هذه الازمات وأعقدها التي تقف حائلا وعقبة في طريق بروز مجتمع مدني يعتمد المؤسسات المنظمة ومواكبة التحديث كما هو الحاصل في العالم الاوروبي المسيحي والبوذي الاسيوي اللذين بلغا مراتب متقدمة ليس في وتائر التكنولوجية وتسارع تقدم تقنياتها بل حتى في رقي انظمتها الديمقراطية السياسية والاقتصادية المتطورة والارقام والبيانات تثبت ذلك.

لم تأت أفكار واراء القبانجي من فراغ ومن خارج مؤسسة الدين وكتبها وثقافتها واجوائها بل كان القبانجي نفسه في يوم من الايام احد عناصر هذه المؤسسة الراديكالية وطالبا في حوزاتها وفاعلا في اجوائها وتعايش مع اهم حوزتين علميتين شهدهما تاريخ التشيع الشيعي في النجف وقم، وبذلك فله تصورات كاملة وإلمام شامل بنقاط قوة وضعف هذه المؤسسة من الداخل التي انتقدها لاحقا، فهو لا يتطفل عليها، وليس دخيلاعلى نسيجها، وانما هو احتدم بتاريخها ودرس في حلقاتها، لكن القبانجي كان يتمتع بعقل ديناميكي ومتفتح يصاحبه اخلاص نادر ليس لعقيدته الدينية وحدها وانما عشق للحقيقة التي يسعى لها المتصوفة في عزلتهم والعلماء في مختبراتهم والفلاسفة في غربتهم والمفكرون وسط جماهيرهم، تلك الحقيقة العصية التي تشكل لذتها والحصول عليها متعة لاتعادلها متعة بالنسبة لامثال القبانجي.

ولان الحقيقة لاتهادن الطبقات المتنفذة ولا مصالح الهيئات السياسية الحاكمة ولاتجامل عقائد العماء وطقوس التكلس التي يرتديها العامة فان القبانجي وقف بالضد من هؤلاء اعزل ووحيدا وغريبا كبقية غرباء التاريخ يتلقى بصدره العاري سهام هذه الهيئات والافراد بالتخوين والتشويه والتسفيه حد الاتهام بالجنون والتسقيط الاخلاقي الرخيص المعروف لدى طلاب المؤسسات الدينية لخصومها وترجمة حسد البعض لرموزها المتالقين بالفكر والمخلصين لدينهم وحقيقة التنوير.

القبانجي طرح نموذجا جديدا للمثقف العراقي يتصف بالشجاعة غير المعتاجة والهمة في مواجهة الاخطاء والعيوب، فكان نموذجه يقابل نموذج المثقف الكسول الراضي بقدره والمستلذ بعزلته في المقاهي وزوايا البارات، والمتردد في طرح أفكاره الحقيقية والمنشغل عن هموم مجتمعه وتطلعاته وكشف عوراته في سرديات لا علاقة لها بتطور المجتمع الذي يعيش فيه والتكلسات التي تتراكم فوق عقله الجمعي وسلوكيات المقننة، فالقبانجي ظهر شجاعا في آرائه جاهرا باعلانها للجمهور من خلال قنوات الاتصال المتاحة الفضائية والصحف والمقاهي والمجالس رغم أن الكثير من هذه الوسائل وضع خطوطا حمراء وأوصد أبوابه بوجه أقوال واحاديث القبانجي أحمد.

كان القبانجي مترجما فذا عن اللغة الفارسية لاتقانه من خلال تواجده الطويل في ايران ومن خلال احتكاكه المباشر واطلاعه على المدارس الفلسفية، ولذا حرص في مشروع سلسلة ترجماته على الاقتصار في نقل موضات التجديد والتحديث في المشروع التنويري الايراني الفلسفي وترجمة ما يقارب تصوراته للثورة على المؤسسة الدينية ومواجهتها بعيوبها وتكلساتها فحرص على نقل مشروع عبدالكريم سروش المفكر الفذ صاحب نظرية البسط والقبض النبوية للقارئ العراقي وعلي شريعتي وسواهم من مفكري التجديد والحداثة التي ناصبت لهم المؤسسة الدينية العداء والكراهية كما تناصب اليوم المؤسسة الدينية في العراق العداء للقبنجي.

لا يسع المجال لذكر نقاط مفصلية أخرى في مشروع القبانجي الذي يقف حاليا أسيرا خلف قضبان المعتقلات الايرانية دافعا ضريبة عقله الحر وآرائه الشجاعة وحرصه على التنوير وتطبيق العلم والحداثة ومقارعة الظلم والعماء بكل إشكالهما وأساليبهما بما يشكل فضيحة جديدة لمناهضة المفكرين والحريات بشكل عام ليس في بلادنا وحدها، بل في بلدان الجوار أيضا.