22 ديسمبر، 2024 7:26 م

القانون العراقي بين الدين والدستور

القانون العراقي بين الدين والدستور

بحسب المبادئ العامة للقانون الدستوري ، فأن الدستور هو مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، وهو الاطار الشامل الذي تعمل الدولة بمقتضاه في مختلف الأمور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية. والدستور هو القانون الأعلى في الدولة ، اي أنّ أيّ قاعدة دُستوريّة تعلو على كافّة القواعد القانونيّة التي تُطبّق في الدّولة سواء شكلياً أو موضوعياً، وبالتالي فإنّ نظام الدّولة محكوم بهذه القواعد الدُّستوريّة، وعلى كافّة سُلطات الدّولة أنْ تُمارس أيّ اختصاص وفق تلك الأحكام والقواعد. وقد نص الدستور العراقي النافذ والصادر في 2005 في المادة (13) على ” أولاً:- يُعدُ هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزماً في أنحائه كافة، وبدون استثناء. ثانياً:- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نصٍ يرد في دساتير الأقاليم، أو أي نصٍ قانونيٍ آخر يتعارض معه” . فسمو الدستور العراقي منصوص عليه في متن الدستور .
اذا بدأنا بقراءة نصوص الدستور نجد ان واضعي الدستور العراقي قد ادخلوا انفسهم وادخلوا الدستور في مطبات يصعب التعامل معها في ظل النصوص الحالية وكذلك يصعب تعديلها في ضوء الالية التي حددها الدستور ذاته وسوف نركز على اول تلك المطبات واصعبها الا وهي علاقة الدين بالدستور والقانون .
لو اخذنا المادة الثانية من الدستور باعتبارها اول مادة يتم فيها ذكر الدين نجدها تنص على مايلي “أولاً:- الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع: ‌أ- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.‌ب- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.‌ج- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.ثانياً:- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والإيزديين، والصابئة المندائيين”.
بقراءد هذه المادة نجدها تتعارض مع الكثير من النصوص التي وردت في نفس الدستور ابتداء من المادة (1) من الدستور التي تنص على” جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق”. فهذه المادة تشير الى ان نظام الحكم “ديمقراطي ” التي تعني حكم الشعب فحين ان من ثوابت الإسلام “ان الحكم لله ” . طبعا سوف ينبري البعض ليقول ان القران يشير الى موضوع ” امرهم شورى بينهم ” أقول له ارجع الى كافة التفاسير ستجد ان المقصود هنا هم المسلمين فقط وبحسب هذا الفهم لايمكن لغير المسلم ان يشترك في “الشورى ” بعكس المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم .
كما ان نص المادة (2) أعلاه تتعارض مع نص المادة (14) من الدستور نفسه والتي تنص على “العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي ” . فهذه المادة تجعل من جميع العراقيين المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة والايزيدين والبهائيين والملحدين وغيرهم متساويين لمجرد انهم عراقيون ، وهذا يتعارض مع ثوابت الإسلام أيضا التي تفرق بين المسلمين وغير المسلمين .
كذلك تتعارض المادة (2) مع المادتين 42 و43 من الدستور اللتان تنصان على ” المادة (42):لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة. المادة (43):أولاً:- أتباع كل دينٍ أو مذهبٍ أحرارٌ في:‌أ- ممارسة الشعائر الدينية، بما فيها الشعائر الحسينية.‌ب- إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون ” فحرية الفكر والضميروالعقيدة ” تتعارض مع مبداء ” من بدل دينه فاقتلوه ” .
من ناحية أخرى نجد ان المادة (2) تتعارض مع نفسها حيث انها في الفقره ثانيا (أ) تذكر عدم جواز اصدار قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام وفي الفقره (ب) لاتجيز اصدار قانون يتعارض مع الديمقراطية وكلاهما مختلفين وعلى طرفي نقيض كما اوضحنا سابقا .
نأتي الان الى الفقرة (أ) من البند ثانيا من المادة الثانية لنقراءها ونبين مقدار خطورتها فهذه الفقرة تنص على مايلي ” : ‌أ- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام” . كما نرى ان الفقرة تتكون من ثمان كلمات واداة نهي (لا) الا ان هذه الكلمات الثمان قد تشل الحركة التشريعية للبلد بالكامل . فوفقا لمبداء سمو الدستور لايجوز ان يخالف هذا النص أي قانون يصدر في العراق من بعد 2005 .
اذن لنعرض هذه الكلمات على التحليل القانوني . من الناحية اللغوية فاداة (لا ) تسمى أداة نهي وهي تدخل فقط على الجملة الفعليّة الإنشائية التي لا تحمل التصديق والتكذيب والتي يكون فعلها مضارع وتقوم بجزمه . كلمة (يجوز) تعني التسَوَّيغَ والأَبَاحَهُ وحيث انها مسبوقه باداة نهي فالمعني النهي عن التسويغ والاباحة في سن قوانين تتعارض مع “ثوابت الإسلام ” . هنا تبرز المعضلة الكبرى وهي ما المقصود بكلمة “ثوابت ” والمقصود بكلمة “اسلام ” ؟ .
فمفهوم الدين في اللغة، مأخوذ من الفعل دان، بمعنى اعتقد واعتنق، وهو عبارة عن الطاعة الكاملة، والانقياد بفكر، أو مذهب معيّن، والسير في ركابه وعلى هداه، أمّا مفهومه اصطلاحاً: فهو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقيم، التي يعتنقها مجتمع من المجتمعات اعتقاداً، وقولاً، وعملاً. كذلك من الناحية اللغوية “الثابت ” هو المستقر الذي لايتغير ولايتبدل ولا يمحى ولايحيد ولايتزعزع اما من الناحية الفقهية فالثوابت تنقسم الى ثلاثة اقسام ثوابت المصدر و ثوابت أصول العقيدة وثوابت الشريعة . للأسف لايوجد من هذه الثوابت الثلاث ثابت واحد اتفق عليه المسلمين فعلى سبيل المثال يعتبر المذهب الحنفي ان مصادر الدين هي كما قال أبو حنيفة ” أخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة؛ آخذ بقول من شئت منهم وأدع قولَ من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر – أو جاء – إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب – وعدد رجالاً – فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا” . بينما نرى ان مصدر التشريع عند مالك ابن انس هي القران والسنة وعمل اهل المدينة وقول الصحابي وسد الذرائع والقياس والمصالح المرسلة . اذن المالكية لايعتبرون الراي من ثوابت المصدر كما ان الحنفية لايعتبرون عمل اهل المدينة من ثوابت المصدر . اما اذا اخذنا باصول العقيدة نجد كذلك ان السنة لاتعتبر الامامة من أصول العقيدة في حين ان الشيعه يعتبرونها من اهم أصول العقيدة . اما اذا اخذنا ثوابت الشريعه فهنا الطامة الكبرى اقلها تحريم الخمر . حيث نجد انه بالنسبة الفقهاء لايوجد هناك اجماع على كيفية التعامل مع موضوع الخمر ففي حين ان جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين قالوا بان قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام، وقال فقهاء العراق ومنهم إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصريين إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين . وكذلك الأحوال الشخصية والارث والعقود والتعاملات التجارية وحتى العلاقات الدولية وقوانين الاتفاقيات الدولية بل وحتى قوانين الجنسية فمن ثوابت الإسلام ان يكون المسلم الشيشاني اقرب الى المسلم العراقي من أخيه العراقي المسيحي . بل ان مصطلح “مسلم ” نفسه غير محدد فمن ثوابت بعض المذاهب ان المخالف في المذهب غير مسلم ويكفي ان نذكر قول فقهاء المالكية ” ما ولد في الإسلام اشأم من ابي حنيفه ” .
على سبيل المثال فان أي قانون يتم او تم تمريره بعد 2005 يمكن الطعن به على أساس مخالفة (ثوابت الإسلام ) لان كلمة ثوابت الإسلام لدينا غير محددة بعكس مثلا الدستور الإيراني الذي يوكد على ان المذهب الجعفري الاثنى عشري هو المذهب الرسمي وكذلك النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية الصادر عام 1992 والذي حدد في المادة 45 منه مصدر الإفتاء بالقول ” مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية كتاب االله تعالى وسنة رسوله .. ويبـين النظـام ترتيب هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء واختصاصاته” .
اما في العراق فهذه النقطة متروكة ولايريد احد الاقتراب منها رغم انها يمكن ان تجر خلفها كوارث مستقبلية . ان الذي يحمي القوانين التي صدرت قبل عام 2005 هو نص المادة 130 من الدستور التي تنص على ” تبقى التشريعات النافذة معمولاً بها، ما لم تُلغ أو تعدل، وفقاً لأحكام هذا الدستور” . ولكن أي تعديل سوف يصطدم بنص المادة 2 من الدستور ان لم يكن اليوم فغدا .

وفي النهاية يجب ان نؤكد على ان النص الدستوري سواء اعجبنا او لم يعجبنا يبقى هو القانون الاسمى للدولة واحترام نصوص الدستور وسموها هو اولى مظاهر احترام الدولة لنفسها ولمكانتها بين شعوب الأرض