23 ديسمبر، 2024 10:52 ص

القاص محمدعلوان جبر،في مجموعته القصصية الجديدة،تراتيل العكاز الاخير

القاص محمدعلوان جبر،في مجموعته القصصية الجديدة،تراتيل العكاز الاخير

حساسية واضحة في تناول الحرب وتنوع الصيغ التي جاءت بها شخصية السارد .
اصدار :دار ومكتبة عدنان
الطبعة الاولى 2015
يبدو وكأن محمد علوان جبر وهو يتصدى لكتابة مجموعته القصصية الاخيرة(العكاز الاخير)كان ذهنه مشغولاً في أن يبني فضاءً قصصيا مَحمولاً من ذخيرة الحروب التي عاشها العراقي طيلة عقود طويلة مضت عليه،فالقصص تنفتح في حساسيتها السيميائية على ماتفرضه موضوعة الحرب من ازمنة ثقيلة لاتنتج إلاّ مشاعر القهر والكبت والحرمان.

ورغم أن معظم الشخصيات قد تركت الحرب فيها وعليها وشمها واضحا وعميقا ــ نفسيا وجسديا ــ إلاَ اننا نقف امام اصرارها على ان تتنفس الحياة بعمق وسرعة رغم مرارة الحزن الذي يترسب في اعماقها كما هي شخصية صاحب المقهى في القصة المعنونة العكاز الاخير:”سيدتي أنا أُدير مقهى صغيرة تحت ظلال شجرة سدر عملاقة،تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه اطرافنا الصناعية .. نكوم السيقان والاذرع الصناعية تحت الشجرة ..نعرضها تحت الضوء،نجلس حولها نحدثها وتحدثنا..ربما كان البعض الآخر. .اقول ربما..لاتستغربي ،ولاتقولي إنني مجنون …! ” .

والتجانس يبدو واضحا جدا في هذه المجموعة القصصية خاصة وأن الحرب تشكل تاريخا شخصيا لمعظم شخصيات المجموعة القصصية .

وفيما يتعلق بتجربة الكتابة القصصية فإن علوان يمتلك خبرة متراكمة تجعله مُمْسكا بأدواته الفنية بحرفية عالية وهو يتصدى لمثل هذه الموضوعة على ماتختزنه من عوالم داخلية شديدة العتمة داخل مغاور الذات الانسانية.

الموضوعة الانسانية

في مشغله الفني بدا واضحا ان علوان قد ابتعد في رؤيته الفنية بدرجة ما عن الانشغال المتقصد بخداع القارىء بمقولات فنية تسعى لتأطير النص ضمن مقاربات اسلوبية تجعله متحركا في حدود المعالجات المتمظهرة في نطاق انشغالات الهموم التجريبية التي تتحرك فيها القصة الحديثة،سواء في استعراض اللغة أو في المعالجة الشكلية التي عادة مايمارسها كثير من كتاب القصة القصيرة الذين عادة مايفتقرون في نصوصهم القصصية الى موضوعة انسانية تتسم بالعمق والاهمية،لذا يتكئون على ارهاصات تجريبية عادة مانجدها في كتابات قصصية تحاول أن تستظل بتجارب جاءت بها الحداثة ومابعدها.

فتجربة الكتابة لدى علوان تبقى في حدود حرصه الفني على أن تتمظهر رؤيته الموضوعية داخل قصصه ضمن تداولية النص لدى القارىء ومدى القدرة على تحقيق تواصل عميق بينهما.

واللغة لديه اضافة إلى رشاقتها وجمالها تبقى مشروطة بحضور ارسالها الفني داخل إطار وظيفتها السردية، دون أن تخرج الى ما هو جمالي/شكلاني صرف لاتأثيرله على نمو وتطور البناء .

أقنعة الحرب

ليس للحرب من ذكريات تبعث البهجة في الذات الانسانية،بقدر ما يشكل الاسى قاسما مشتركا بين الجميع،وليس بالضرورة هنا ان تعيش شخصيات علوان حالة الحرب بين الخنادق وتحت القصف،كما في قصة “ضوء ازرق اسفل الوادي”.وتبدو لنا هذه القصة من اجمل وانضج قصص المجموعة من الناحية الفنية وهي تتصدى لموضوعة الحرب،بل عمد علوان إلى ان تمتد سلطة الحرب بعيدا عن الخنادق الى ازمنة تأخذ الشخصيات في دوامة الحياة،لتحيط بها وترسم تفاصيل حياتها ومصيرها المأساوي،كما في قصة “ملاذات طالب العجيبة” بعد أن كانت الحرب قد اقتصَّت منه ومن رمز فحولته، فاحالت حياته الاسرية والنفسية الى حطام .

الحروب تبقى تطارد الشخصيات بتفاصيل آخرى،في البيوت والشوارع والمقاهي والازقة التي تنتقل اليها بعد أن تغادر الخنادق،تطاردها في طفولتها كما في قصة(انقلاب)وفي احلامها كما في قصة(مطر بلون الرثاء)وفي لحظات السعادة الشحيحة التي تعيشها كما في قصة (غبار حلم آخر) .

ولافرق هنا فيما لو جاءت الحرب بوجه آخر غير الوجه المتكدس عنها في الذاكرة الجمعية،وذلك عندما تجيء وهي تلبس قناع الرعب السلطوي لتستبيح الحياة الانسانية،كما في قصتي “الاوبتيما الزرقاء ” و”انقلاب ” .

اختزنت ذاكرة علوان الكثير من التفاصيل الانسانية التي عاشتها الشخصية العراقية في مسارها التراجيدي خلال اكثر من نصف قرن،كانت الحرب والانظمة القمعية يقفان خلفها،ليشكلا علاماتها الفارقة التي وسمت ملامحها،وتركت فيها ندوبا تختلط فيها مشاعر الاسى والخوف والوحدة،كما في قصة “صهيل العربة الفارغة “.

قد تكون هذه العوالم النفسية الحادة هي الأقرب الى مشغل القصة القصيرة،التي تصبح فيها الشخصية الانسانية بؤرة مركزية داخل بنيتها الفنية وهي في حالة من الانشداد والتأزم ضمن قالب زمني مضغوط،يشكل جوهر خيارات تركيبتها البنائية .

إن علوان يدرك جيدا في مجموعته هذه الكيفية التي يبدو فيها امام القارىء مقنعا ومشوَّقا في سرده الفني،خاصة ان لديه مايريد أن يوصله من افكار الى القارىء،بذلك هو غير منشغل مثل غيره باستعراض مهارته الفنية ككاتب للقصة القصيرة يملك قدرة الامساك بانتباه القارىء الى النهاية حتى لو لم يكن هنالك في القصة مالايستحق قوله من افكار.بقدر ما يكون الأمر المهم لديه بأن يمد القارىء بتجربة انسانية تشير

الى عمق الجروح التي تتركها الحروب في روح الانسان،وليس من السهل أن يمحوها الزمن،وذلك من خلال تجربة فنية تستحق القراءة والتأمل.

من هنا لانجده يلجأ الى الحشو والثرثرة اللغوية وهو يؤثث معمار قصصه،بقدر ما نجده يبدأ سريعا في الدخول الى مرحلة العرض وهو ينسج خيوط قصته،لتنمو متدفقة سريعة كما في مفتتح قصتة المعنونة (حفاروا الخنادق):”كنا عشرة،قبل أن نصل إلى وحدتنا الجديدة سقط واحد منا،نقلته سيارة الاسعاف ولم نسمع عنه خبرا ” .

القصة القصيرة التي يكتبها علوان تنفتح فضاءات اشتغالاتها على ما يتمظهر فيه السياق العام لاشتغالات القصة القصيرة بكل تداوليتها التي افرزتها تجارب الحداثة ومابعدها،وذلك بالاهتمام بالصنعة واللغة القصصية دونما اسراف،وهذا يندرج ضمن ماتحظى به فنية القصة القصيرة من محاولات حثيثة في الانزياح عن التقاليد والتقليدية في البناء.

لذا يمكن قراءة الحساسية التي اشتغل عليها علوان في بناء قصص المجموعة بما انطوت عليه من تنوع واضح في شخصية السارد،كذلك في تنوع صيغ الضمائر التي جاءت بها،مما يعني ارتهان سياقه السردي ـــ في تعددية صيغه ــ الى طبقات المعنى المحمول في علامات السارد.

* تتألف هذه المجموعة القصصية من ثلاث عشرة قصة قصيرة،وقد حملت عنوان احدى هذه القصص، وسبق للمؤلف أن اصدر مجاميع قصصية بالعناوين الاتية:تماثيل تمضي تماثيل تعود،تفاحة سقراط، شرق بعيد . كما اصدر رواية بعنوان ذاكرة ارانجا.