23 ديسمبر، 2024 10:21 ص

في السنوات الأولى من الدراسة، يتعلم الصغار شيئاً اسمه القاسم المشترك. ويتمرنون على استعماله في عمليات حسابية بسيطة. وهو مصطلح رياضي يعني العامل الذي يظهر في جميع المقادير ذات الصلة. وقد لا يكون بالضرورة رقماً من الأرقام، بل يصح أن يكون مادة أو فكرة أو موضوعاً، أو إنساناً. فلا تكاد تخلو منه في هذه الحياة وجبة من الوجبات، أو مهنة من المهن، أو يفتقر إليه برنامج من البرامج، أو خبر من الأخبار! 

وفي العراق لا تذكر مؤسسة أو وزارة أو شركة أو دائرة خدمية، إلا ويذكر معها قاسم مشترك أعظم هو الفساد بمختلف صنوفه، حتى بات غيابه عنها  عصياً على التصديق. وحينما يشيع مثل هذا الأمر في بلد ما، فإنه ينتشر مثل الوباء  في كل مكان، ولا تتيسر  السيطرة عليه لأنه يصيب جميع الأفراد، بمختلف مستوياتهم الوظيفية والاجتماعية. 

والحقيقة التي لا ريب فيها أن البلد الذي يتعرض للانهيار الاقتصادي يصاب لا محالة بالفساد المالي. ويضطر متنفذوه إلى استغلال المناصب، وابتزاز الناس. وهذا ما حدث في تسعينات القرن الماضي في العراق، بعد مغامرة غزو الكويت. ولطول مدة الحصار على هذه البلاد، تجذرت عملية الفساد حتى غدت ممارسة علنية في كل مكان. فلما تغير الوضع وبدأت أموال النفط تتدفق من جديد، وسمح بالانفتاح الاقتصادي. وتراخت قبضة السلطة، وتعددت مراكز القوى، ازدادت حدته حتى أصبح قاسماً مشتركاً في جميع الدوائر ومؤسسات الدولة. 

مثل هذا الأمر بات معروفاً للجميع، ولم تعد الكتابة عنه تستهوي أحداً. لكن المهم هو كيف يمكن التحرر منه. وما هي الوسيلة التي يمكن بها القضاء عليه. هل يتحقق ذلك بتشريع قوانين لا يمكن تطبيقها على الأرض؟ أو بإعلان ثورة شعبية تستهدف رموزه في البلاد؟

الحقيقة أن استرجاع الأموال المنهوبة من الدولة العراقية طيلة هذه السنين أمر محال. فهناك أكثر من وسيلة للإفلات منه. كما أن جل هذه الأموال تسرب إلى دول أخرى. ولا يمكن إعادته بالطرق القانونية المعتادة. 

وفي رأيي أن جزءً من الحل يكمن في إتاحة الفرصة لاستثمار هذه الأموال داخل العراق، وتحويلها إلى أداة من أدوات التنمية، وفسح المجال أمامها كي تنمو وتكبر. منتقلة بذلك من جيوب المرتشين إلى جيوب الناس. ومن المصارف الأجنبية إلى بيوت المال العراقية. ويتحقق ذلك بإيقاف الإجراءات القانونية – إن وجدت – ضدها، مقابل اضطلاعها بتمويل مشاريع إنتاجية، والإسهام في تنمية البلاد، وتحريك القطاع الخاص، بدلاً من مطاردتها العبثية في الخارج. 

وإذا ما نجحت التجربة مع نموذج أو نموذجين من (رجال الأعمال) الجدد،  وقل تدفق الأموال إلى الدول الأخرى، وجرى استيعاب جزء من العمالة المحلية. وانتعش الوضع التجاري قليلاً، فإن التجربة ستتسع وتكبر بانضمام آخرين إليها. 

ولا شك أن هذه الأموال ستسهم في إشاعة قيم العمل والإنتاج في صفوف المجتمع بعدما سيطرت النزعة الطفيلية عليه. فهي كفيلة بتشجيع صغار الرأسماليين على خوض تجارب مماثلة في ميادين مختلفة. والانصراف إلى العمل الحر المباشر، وتقليل الضغط على القطاع العام. كما أنها تقوم بتخفيف ظاهرة الرشوة والابتزاز، التي أصبحت غولاً مخيفاً، لأنها تخلق مجتمعاً صالحاً يزدري أي سلوك شائن، وتخرج من أوساطه حكومات قوية قادرة على إنفاذ القوانين مهما كانت الممانعة ذات حول وطول. 

إننا إذ نتغاضى عن جرائم إدارية ارتكبها البعض من المسؤولين السابقين، وهم على مقاعد الوظيفة، فإننا ندرك أن إعادة الأموال المختلسة إلى السوق العراقية، هو تكفير عادل عن هذه الجرائم. أما التمادي في المطاردة والبحث والمسائلة، فلن ينفع البلاد في شئ. ولن يؤدي إلا إلى حرمان المجتمع من عائدات مالية ضخمة، وجدت طريقها إلى الخارج، واستوطنت هناك، وقد لا تعود إلى البلاد أبداً.