يبدو أن المصائب البيئية التي حلت وتحل بالعراق لن تنتهي والتي آخرها جفاف مياه نهر دجلة “الخير”، وطبيعي أن المتضرر الوحيد من ذلك هو المواطن وليس من يدير السلطة. وسأحدثكم اليوم عن واحد من أخطر البؤر البيئية والقاتلة التي يعاني منها المواطن العراقي من دون أن يراها أو يشعر بها، ألا وهو إستخدام البنزين “الملوث” بالرصاص.
كانت ثلاث من أكبر شركات البترول في العالم قد اتهمت بتعمدها بادخال تيترا إيثيل الرصاص في البنزين في العشرينات من القرن الماضي مع علمها أنها تسمم الملايين من الناس وتتلاعب بالعلوم لأكثر من 50 عاماً لتجنب اللوم وفقدان المبيعات المربحة. علماً أن الدليل العلمي على التأثيرات الصحية للرصاص، لا سيما تلف دماغ الأطفال معروف جيداً ومنذ زمن بعيد. فقد تم تحديد عواقب البنزين المحتوي على الرصاص بوضوح من قبل مسؤولي الصحة العامة والعلماء قبل 75 عاماً.
كان ياندل أندرسون، أستاذ الفسلجة (علم وظائف الأعضاء) التطبيقية في جامعة ييل ومخترع قناع الغاز، من بين أولئك الذين حذروا من التسمم بالرصاص في عام 1924، ومع ذلك تم إطلاق البنزين المحتوي على الرصاص في العالم في عام 1926.
ما لا يعلمه الناس هو أنه حتى الرومان كانوا يعرفون أن الرصاص مادة سامة، لكن الحصول على الفوائد في الأداء السهل للسيارات من إضافة تيترا إيثيل الرصاص إلى البنزين كانت مغرية جداً لصناعة النفط والسيارات. كان هناك العديد من التحذيرات المبكرة من التأثيرات السامة حين أصبح المصنع الأول الذي يصنع الرصاص المضاف معروفاً بإسم “بيت الفراشات” بسبب الهلوسة التي عانى منها العمال العاملين في المصنع. وأدى ذلك إلى موت العشرات من العمال وجنون الكثيرين إلى حين توقف المصنع بشكل موقت وتم إجراء تحقيق من قبل مؤسسات الصحة العامة في الولايات المتحدة ، لكن ضغط شركات النفط الكبرى لم يسمح بإغلاقه نهائياً.
لم يكن حتى عام 1965 حين أثبت كلير باترسون، وهو عالم جيوكيميائي، أن الرصاص في جسم المواطن الأمريكي قد إزداد 100 مرة منذ أدخل الرصاص في البنزين. ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة بالتخلص التدريجي من الرصاص، انخفض مستوى الرصاص في دم المواطن الأمريكي في المتوسط بحوالي 80%. ونتيجة للجهود التنظيمية التي تبذلها وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، وأهمها إزالة الرصاص من بنزين السيارات، انخفضت مستويات الرصاص في الهواء بنسبة 98 % بين عامي 1980 و 2014.
لكن في الدول النامية، ومن بينها العراق طبعاً، لا زال وجود الرصاص في البنزين أمراً لم يتم اتخاذ اجراءات بصدده بشكل جذري. فمثلا، في مدينة واحدة هي مكسيكو سيتي، تضخ أربعة ملايين سيارة 32 طنا من الرصاص في الغلاف الجوي كل يوم. ووفقاً للبنك الدولي، يعاني 1.7 مليار من سكان المدن في البلدان النامية من خطر التسمم بالرصاص، بما في ذلك تلف الدماغ وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب بسبب الرصاص المحمل بالهواء. في عام 1996، كان 93 % من جميع البنزين الذي يتم بيعه في أفريقيا يحتوي على الرصاص، و 94 % في الشرق الأوسط و 30 % في آسيا.
ما هي تأثيرات الرصاص على صحة الإنسان؟
بمجرد دخوله إلى الجسم، يتوزع الرصاص في الدم ويتراكم في العظام. واعتمادا على مستوى التعرض، يمكن أن يؤثر الرصاص سلبا على الجهاز العصبي وعلى وظائف الكلى والجهاز المناعي والأجهزة التناسلية والتنموية وعمل القلب والأوعية الدموية. يؤثر التعرض للرصاص أيضاً على قدرة حمل الأكسجين في الدم. وإن تأثيرات الرصاص الأكثر شيوعاً في السكان حالياً هي التأثيرات العصبية عند الأطفال وتأثيرات القلب والأوعية الدموية (على سبيل المثال، ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب) لدى البالغين. الرضع والأطفال الصغار حساسون بشكل خاص لمستويات منخفضة من الرصاص، مما قد يسهم في حدوث مشاكل سلوكية لديهم إضافة لنقص في التعلم وانخفاض معدل الذكاء. ويمكن أن يؤدي الرصاص المرتفع في البيئة إلى انخفاض معدلات النمو والتكاثر في النباتات والحيوانات على حد سواء.
تقول شركات البترول الكبرى “نحن نبيع “تيترا إيثيل الرصاص” للزبائن الذين لا يزالون بحاجة لاستخدامه لحين ما يمكن تحويل مصافي النفط عندهم لكي توفر البنزين الخالي من الرصاص (المحسن).
إن التسمم الحاد بالرصاص يؤدي إلى العمى وتلف الدماغ وأمراض الكلى والتشنجات والسرطان والوفاة، وإن الأطفال الذين يتعرضون لمستويات غير عالية من الرصاص يكون لديهم معدل ذكاء أقل وعجز في القراءة والتعلم وضعف في السمع وانخفاض في الانتباه وفرط النشاط والمشاكل السلوكية وتأخر في النمو. كما يمكن للبالغين أن يقعوا ضحية لارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية والوفاة.
والآن علمنا أن شركات البترول العالمية تتعمد بادخال تيترا إيثيل الرصاص في البنزين لأسباب ربحية بحتة وحيث لا تهمها صحة المواطن، ولكن ماذا تجنيه صناعة البنزين في بلد كالعراق حيث كل شئ تقوم به الدولة/الحكومة نفسها؟ والجواب الوحيد هو أنها بالتأكيد تتعمد بإحداث الضرر الخطير على صحة المواطن طالما أن الربح جراء إضافة تيترا إيثيل الرصاص ليس من أولوياتها.
لقد ذكرت أعلاه أن أربعة ملايين سيارة تضخ 32 طنا من الرصاص في الغلاف الجوي كل يوم في مدينة مكسيكو سيتي وحدها، فتصور أخي المواطن كم هي كمية الرصاص التي تضخها ملايين السيارات في العراق وما هو تأثير ذلك على صحتك وصحة عائلتك وخصوصاً أطفالك.
سيارات اليوم في معظم دول العالم تستخدم “البنزين المحسن” الخالي من الرصاص وهذه السيارات تنتشر في العراق، فما هو السبب في إصرار الحكومة العراقية على عدم الإنتقال إلى صنع “البنزين المحسن” بدلا من البنزين المحتوي على الرصاص خصوصاً وأن كفاءة عمل السيارة أفضل بكثير بإستخدام “البنزين المحسن” عنه من إستخدام البنزين الملوث بالرصاص؟
لقد أصبحت بيئة العراق كلها ملوثة منذ بدء العدوان عليه عام 2003 ولغاية اليوم، إبتداء من إستخدام الأسلحة التي تحتوي على اليورانيوم المنضب وإلى إصرار الحكومة على عدم التخلص من البنزين المحتوي على الرصاص القاتل لكم.