لحكمة خفية اقترن القبض على الجمر بكل ما هو عظيم وجليل، قبض يؤلم الى درجة نسيان لذعة الاحتراق من اجل مبدأ راسخ او موقف ثابت. ولان الناس لم يتعودوا القبض على الجمر،ـ فان صنيعاً من هذا القبيل يثير الدهشة فيهم ينسيهم ان الانصهار يتم بواسطة النار، وانه كلما اشتد الاوار نضجت الاشياء النيئة.
وبمقتضى قانون الحتمية ترتب على قبض النار ادراك عميق للحقيقة، ومخاطر سخية بملامستها، كما ترتب عليها بالضرورة القبض على الفاعل لا رأفة به، وانما عقاباً له على اختراق المألوف، وتجاسر على البوح والكشف.
وما دامت الكتابة الصدامية، قبضاً على الجمر، فأن من يمارسونها بالتزام يشعرون اكثر من غيرهم بزخم المعاناة، تحترق اصابعهم في كل كلمة يخطونها بل اكثر من ذلك يطبقون على النار في اختيارهم بين ان يخلصوا للحياة وللتاريخ او ان يسيروا في موكب القطيع المدجن.
وفي مقابل القبض على الجمر، هناك القبض على الراتب السمين، قبض له اساليبه وطقوسه، يبدأ من بطالة القابض الكبير وتكاسله الحضاري واكتفائه بالحضور المشع في مكتبه الانيق وتزويده بوسائل العصر من اجل ان يستمر في القبض على من يخالف اسلوبه ويتطاول على رزقه الوفير وامتيازاته المقدرة.
ولأن هذا الزمن مسكون بالجشع والتطاول، فقد انتشرت الرشوة في اكثر من مجال، قبض يبدأ بالمغازلة اللطيفة، والاشارة الذكية والاستدراج المبطن بالمقصود، ليتحول الى مساومة مكشوفة من اجل قضاء الحاجة وفي لمح البصر، ومن خلال هذا الموقف تبرز للقابض انياب طويلة، وتنبت له اظافر حادة يغرسها في جسم ضحيته البريئة.
ومن سوء الحظ ان هذا النوع من القبض يعرف ازدهاراً وان اصاحبه تنتفخ بطونهم لدرجة انك لا تعرفهم اذا رأيتهم من فرط التكرش والترهل، وان جيوبهم هي الاخرى طفح كيلها وفاحت رائحتها.
وهناك ايضاً القبض على الفقراء من الباعة على الارصفة وهو قبض يتميز بالعقاب العلني وبالسلخ الفوري واحياناً كثيرة ينتهي بالخشونة التي تدل على ان القبض على الرصيف ليس من العقل الحصيف.
ومن اقسى انواع القبض، قبض الريح، حيث تفجع بعض المجتمعات في مستقبلها حين تضخم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان، وهي ابعد ما تكون عن ذلك.
قبض يبدأ باطلاق الكلام على عواهنه، وتضخيم الاشياء اكثر من اللازم والاندفاع خلف الامزجة وما توحي به، ولو قبضت تلك المجتمعات نفسها عن الغلو، والانحراف، واحكمت وثاقها لما وجدت نفسها في المهالك، واطبقت عليها المآزق.. واخيراً الكلمة الفصل بين القبض والانقباض.
اما اصحاب القبض فيخرجون من المحنة الاولى ليدخلوا الى ما تبقى من المحن والاهوال، في شد للرحال، حالمين ومحلقين رؤوسهم ليسقط منهم من يسقط في وسط الطريق ووينجو من حالفه الحظ وكتبت له البشارة.
واما اصحاب الانقباض، فمنهم من تقبضه الحياة من عنقه لتزج به في طاحونتها.. وتجره على ارصفة المدن المسكونة بالاضواء والاطعمة الشهية، ومنهم من تمد له حبل النجاة لينفلت من القبضة ويظفر بالرغبة ويكون من الثلث الناجي كما يقال…
هكذا اذن تبدو الحكمة الخفية من القبض على الجمر حين تتراكم الكتل السوداء امام الانسان، وتبدو امام عينيه مظالم الحياة المتعددة، وينظر حوله فلا يجد فكاكاً من الدوائر الرهيبة التي تخنق انفاسه، عندئذ لا يبقى امامه غير القبض على الجمر في ممارسة الحياة، مقابل توليد الحقيقة الغائبة، ودفع ثمن الحياة الباهظ، ثمن يبدأ من استثمار الانقباض كحالة مرضية وتحويله الى قبض بمعناه الايجابي لتحقيق الذات المقهورة والمحاصرة داخل سراديب الفجيعة والانكسار والظلم.