امتحان البعث والعروبة
ليس من السهل على اي مثقف عربي أو عراقي تحديدا الحديث عن البعث بشجاعة الفرسان وصراحتهم، سواء كان بعثيا ام لم يكن، فمازالت الهجمة الشرسة على البعث بمثل قوة الهجمة على العراق والامة، وشئنا ام ابينا، فان مسيرة البعث في العراق هي مسيرة وطن وشعب اراد الثريا، ولكنه مازال قريبا من الثرى..
وحين هوت نجمة البعث في التاسع من نيسان عام 2003 في ساحة الفردوس ببغداد، هوت معها نجمة العروبة ، ولم يدرك العرب كما هم العراقيون، ان ما سياتي بعد ذلك هو الطوفان وانقضاض مخالب العداء الدولي والاقليمي لكل قيمهم وتاريخهم ومستقبلهم، وتشويه دينهم الذي يمثل للعرب الهوية العظمى المعبرة عن خصوصيتهم ورسالتهم.. وعلى مدى ما يزيد عن نصف قرن من الزمن العربي الاغبر، كان البعث بفكره الخلاق هو الوعاء الامثل الذي يمزج دون تقاطعات مذهبية بين رسالة الامة ودينها، بين هويتها وكيانها، فالعروبة والاسلام كانتا حجر زاوية فلسفية عميقة في فكر البعث الثوري التنويري الذي جابه رغم التحديات الصعبة في كل المراحل ابتداءا من نشاته مع احلام الشباب العربي المثقف التواق الى الوحدة والحرية والتقدم وانتهاءا بالصراعات العسكرية، كل قوى الشر والهيمنة الامبريالية الطامعة بثروات العرب والهادفة الى تجزئة الوجود والشخصية والهوية العربية،
وبعد ثلاثة عشر عاما من احتلال بغداد، وتدمير العراق والعمل على تقسيمه، واجتثاث البعث ثم العبث بمقدرات دول عربية اخرى والعمل على تقسيمها، يتوجب على كل مثقفي العراق تحديدا، النظر الى المستقبل بجدية وقوة وتناول البعث كتجربة وكفكر، ورغم ان ذلك ليس سهلا كما قلنا، ولكن مقارنة بظروف نشأة البعث في الاربعينيات، فلم يكن ايضا من السهل جدا انذاك بوجود القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية المهيمنة على مقدرات الامة، الحديث عن فكر قومي تحرري تقدمي وحدوي ومن ثم تشكيل تنظيمات ثورية من الشباب المناضل المؤمن بقدر الامة ورسالتها ، ومن هنا فان الحديث اليوم عن البعث هو الحديث عن قدرة الشباب العربي ومثقفيه في ايجاد الوسائل وابتكار الاساليب لمقارعة قوى الهيمنة والتخلف والطائفية التي تكبل الروح والعقل العربي وتضع امامه صورة كبيرة من الياس والاحباط والفشل، وحواجز من اصعب التحديات التي يمكن ان يواجهها العرب يوما ما والمتعلقة بهويتهم وكيانهم..
واذا كان البعث قد حمل وزر تجربة ومرحلة من تاريخ العراق تحديدا، وهو يواجه اليوم سيلا من الانتقاد المتعمد والمعتمد على نتائج تلك التجربة وليس على ظروفها، فانه اثبت للجميع ان الخطأ في التطبيق لايلغي صحة النظرية، مع ان نتائج تجربة البعث في العراق وفي كل الاحوال والقياسات كانت ضمن سياق النضال المنسجم مع طبيعة الاهداف، ومع حجم الصراع بين الامة وبين محيطها العدائي، وبين الامة وبين القوى الدولية الساعية لبسط نفوذها في المنطقة والعالم، وبين الامة وبين قوى التخلف والسلفية المسيطرة على اجزاء عديدة منها والتي تعيش ماضٍ بعيد لاينسجم مطلقا مع التقدم والحداثة والمدنية، ولنا بعد ذلك ان
نتخيل كيف ان فكر البعث ورجاله الشجعان يواجهون بمفردهم كل هذه التحديات، ثم لنحكم بعد ذلك على خلل هنا او هناك او خطأ هنا او هناك في مسيرة نصف قرن لم تشهد يوما واحدا خاليا من التحديات والصراعات المحكمة والمعقدة، داخليا وخارجيا، اذ لم تتوقف القوى الامبريالية وعملائها في المنطقة عن نصب المكائد والكمائن للعراق وشعبه وقيادته، ولم تهادن ولم تتهاون باعطاء اي فسحة من الوقت لشعب كان قد تمكن من امتلاك ناصية العلم والمعرفة وابتدأ خطاه على طريق الحرية والتقدم..
لقد نشأ البعث في ظروف تشبه الى حد ما من حيث قسوة النظام وتبعيته للاجنبي وانتشار الفساد وتفشي التخلف والجوع والمرض، الظروف التي يعيشها العرب والعراق اليوم، وبما ان الشباب العربي تمكن انذاك من معرفة طريقه وتحديد اهدافه فليس من الصعب الان على الشباب العراقي معرفة طريقه وتحديد اهدافه، واذا كان القابض فيه على البعث كالقابض على الجمر اليوم، فان المهم جدا ان تتلمس اساليب وابداعات الشباب العراقي الحر طبيعة التحديات والصراع الذي يواجهه العراق والامة العربية، وهنا لابد من القول ان البعث كان قد ركز منذ نشأته على تحديين واضحين امام العرب وهما الكيان الصهيوني والاحلام الفارسية، ومنذ ذلك الحين والى اليوم مازال هذين الخطرين قائمين، وللاسف فانهما يسيطران الان على مصير العرب ويتحكمان بمقدراتهم، ويديمان ويطوران اساليب الصراع واماكنه واتجاهاته..
ولقد كان وعبر مراحل متعددة من الصراع بين العراق واعدائه بامكان قيادة حزب البعث ان تعيش كالملوك والاباطرة لو انها تهاونت قليلا وهادنت قليلا القوى الامبريالية وتخلت عن عقيدتها وشرفها وتاريخها النضالي، وماحصل لتجربة البعث اساسا كان بسبب الروح البطولية المتصفة بالشهامة والايثار والنزاهة، ولعل طبيعة حكام العراق بعد الاحتلال الاميركي وفسادهم وسرقتهم لاموال الشعب ونهبهم لثرواته، خير دليل على الفارق بين صورة وشخصية الفارس العربي الحر، وبين شخصية العبد العميل الخائن الذليل الذي لايمتلك نبضة من شرف او كرامة.. ولهذا فان اعادة تقييم تجربة البعث في العراق والنتائج التي الت اليها، ومن ثم ماتوالى من احداث في المنطقة كلها، تقدم لنا دليلا واضحا على عمق وصحة فكر الحزب وعقيدته التي كانت ترى ان سر قوة وتقدم الامة وتطورها وبعث رسالتها الى العالم اجمع كنموذج للعدالة والمساواة والحداثة والتمدن هو في وحدتها وان التشرذم العربي يفسح المجال للقوى المعادية للتغلغل الى جسدها ومن ثم تحطيمها وهو الذي حصل خصوصا في احداث عامي 1991 وعامي 2003 يوم تمكنت القوى الصهيونية من جعل بعض الانظمة العربية وخاصة دول الخليج العربي التي صممت اساسا لتكون ادوات بيد اميركا والصهيونية لتدمير احلام العرب وايقاف كل حركة لتقدمهم، اعداء للعراق بعدما كانوا هم من سانده بقوة واندفاع في معركة القادسية الثانية في الثمانينيات، ومن ثم اعداء لليبيا ولسوريا واليمن كما هو الحال الان، وفي هذا السياق ايضا فان تجزئة العراق طائفيا هو اهم سبب من اسباب تدهوره وتردي الاوضاع فيه وإضعاف شعبه وانهيار تقاليده الاجتماعية والسماح بدخول الخرافات والدجل والشعوذة الى يومياته مما يطيل امد السيطرة عليه وعلى ثرواته ومقدراته واعادته الى عصور التخلف والظلام..
لقد فشل الحزب في صراعه مع قوى الشر وسقطت تجربته بسبب فشل العروبة اساسا في اظهار شخصيتها وقوتها في مساندة شعب العراق الذي هو جزء حيوي وفاعل وقائد لحراكها ضد اعدائها، ووقفت الجماهير العربية متفرجة بينما كان حكامها يتآمرون بوضح النهار ضد العراق، وفشل العروبة هذا لايعني مطلقا ان ايمان الفكر القومي بوحدة العرب هو محض خيال او احلام كما يتوهم البعض، انما هو اليقين الثابت على
ان اي حركة وخطوة باتجاه حرية اي جزء من الجسد العربي وتحقيق استقلاله التام والتخلص من اوضاعه المتردية واللحاق بركب الحضارة والتمدن، لن يتم الا باطار الوحدة العربية الشاملة، ولعل مايجري بين دول الخليج بتوجيه من الصهيونية العالمية وبين ايران الحالمة باعادة مجد الامبراطورية الفارسية اكبر دليل على ان الحل الجذري لاوضاع المنطقة كلها هو بالتخلص من الانظمة الخائنة العميلة وبالتعاون العربي الجماهيري الفعال القائم على اساس الفهم والايمان الحقيقي بمفهوم وحدة المصير العربي، الذي اتضحت اهميته وواقعيته تماما ومباشرة بعد احتلال العراق الذي كان قلعة للصمود ونموذجا للنجاح والتطور مما سمح بتدهور الاوضاع في اجزاء متعددة من الجسد العربي، ولعل الجميع متفق تماما ان داعش والارهاب والاحزاب الاسلامية الطائفية ماكان بامكانها الحصول موطئ قدم في العراق او في اي مكان في ارض العرب لولا ان تمكنت الصهيونية والغرب من اسقاط تجربة البعث في العراق، والحديث عن الوحدة العربية الان وفي ظل الظروف القائمة يبدو للبعض محض ثرثرة واحلام خائبين، لكنه ابدا لم يكن ليبدو اكثر من ذلك عندما تخلو الساحة من الرموز الوحدوية الثورية الملهمة امثال عبد الناصر في مصر وصدام حسين في العراق، فالعروبة مثل اي مشروع ثوري يحتاج اولا الى الرمز والى الفكر والعقيدة..
يتبع [email protected]