“سياسة نور الدين تجاه القِوى الصَّليبية”
الكاتب: د.علي محمد الصلَّابي
امتدت ساحة صراع نور الدين مع الصليبيين من إمارة الرها إلى أنطاكية ثم طرابلس، وبيت المقدس، وأسقط ما يزيد على الخمسين من الحصون والمعاقل، وتصارع مع جبهتين شمالية وجنوبية في آن واحد، وارتبطت طموحاته بحكمته، ودهائه السياسي، وحافظ على طاقاته وإنجازاته، ولم يقتصر نور الدين على اِتباع الوسائل والإستراتيجيات الأمنية والعسكرية، بل سعى إلى انتهاج الطرق السياسية الدبلوماسية والسلمية في أوقات الحرب والسّلم.
أولاً: العلاقة الزنكية مع الإمبراطورية البيزنطية
تبلورت سياسة الدولة النُّورية الزنكية تجاه الإمبراطورية البيزنطية من خلال دوافع وغايات عدة، وهي:
– اقتصادية: تمثلت في رغبة نور الدين محمود في استمرارية الصلات التجارية بين العالمين الإسلامي والبيزنطي، فمعلوم أن الإمبراطورية البيزنطية، غدت سوقاً رائجةً لمنتجات الشرق التي دخلتْ الدولة النورية طرفًا مهمًا في عملية استيرادها، وتصديرها، من بعد ذلك للقوى الأوروبية، ومنها الإمبراطورية البيزنطية.
– سياسية: حاول نور الدين محمود استثمار الخلافات القائمة بين بيزنطة والقوى الصليبية في المشرق الإسلامي، وذلك لإيجاد توازن في علاقات الإمبراطورية البيزنطية بدولته، وبالكيان الصليبي في بلاد الشام، وساعده على ذلك أن تلك الإمبراطورية احتاجت إلى قوته من أجل استمرار الصراع مع الصليبيين وإلحاق الخسائر بهم؛ على نحو يجعلهم يطلبون عون البيزنطيين، ولا تغيب سطوتهم عن بلاد الشام. وبلا شك، فقد نجحت الدولة النورية في تحقيق توازن سياسي تجاه هاتين القوتين، واستمرار صراعها ومقاومتها للوجود الصليبي في بلاد الشام (فن الصراع الإسلامي الصليبي، محمد عوض، ص188 ).
– إستراتيجية عسكرية: حيث شكلت بيزنطة، قوة عسكرية كبيرة في المنطقة، وقد فاقت قوة الدولة النورية في بدايتها، ولذلك، حرصت الدولة الزنكية على تجنب الصدام العسكري مع البيزنطيين بمفردهم أو من خلال تحالفهم مع الصليبيين، فمختصر سياسة نور الدين تجاه الدولة البيزنطية يهدف إلى تحييدها، وعزلها عن بقية القوى الصليبية في الشرق الإسلامي، وعن الخاصرة الجنوبية الغربية صوب الدولة الفاطمية (فن الصراع الإسلامي الصليبي، المرجع السابق، ص190).
ثانياً: العلاقة الزنكية مع الإمارات الصليبية
نجحت الحملة الصليبية الأولى في إقامة ثلاث إمارات هي: إمارات الرها وأنطاكيا وطرابلس (في الشام)، وقد ارتبطت تلك الإمارات ارتباطًا وثيقاً مع بعضها البعض، وكذلك مع مملكة بيت المقدس اللاتينية، وهي مركز القوى الصليبية وأساس قوتها في الشرق.
ويمكن تلخيص سياسة نور الدين تجاه إمارة الرها في أنها تمثلت في القضاء على محاولة أميرها السابق استردادها، ومن ثم اتجاهه إلى أسره، وإسقاط أملاكه والحصون والمناطق التابعة له. وطبيعي أن ندرك أن دوره في هذا المجال كان المحافظة على ما أمكن إنجازه في عهد والده عماد الدين زنكي، والقضاء على المراكز الحصينة التي سيطر عليها جوسلين الثاني؛ ويلاحظ أن جهوده تجاهها لم تكن على ذلك المستوى الكبير الذي حظيت به إمارة أنطاكيا نظرًا لانتهاء قوة الرها الصليبية الفعلية فى أيامه.
وأما عن إمارة إنطاكيا، فقد تميزت سياسة نور الدين محمود تجاهها، بخوضه عدة معارك كبيرة ضدها على نحو لم تجده بالنسبة لغيرها من الإمارات الصليبية الأخرى، ومن أشهر هذه المعارك: يغرى في عام 543هـ/ 1148م/ والتي سار إليها نور الدين محمود، واجتمع بالقوات الصليبية، واقتتلوا أشد قتال، ومن ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وبعدها معركة أنب في عام 544ه/1149م، وقد حقق فيها الجيش النوري انتصاراً، وتم قتل ريموند وعدد كبير من قادة الصليبيين، وقد انتهز نور الدين فرصة الضعف التي عمت المناطق والحصون، فسيطر على العديد من الحصون الأنطاكية، ومنها أزمان وأنب، واِجتاح سهل أنطاكيا حتى بلغ ميناء السويدية على البحر الأبيض المتوسط، وبذلك قضى على المراكز الصليبية الأمامية الممتدة بين حلب وأنطاكيا، بل إنه هدد إنطاكيا، وحاصرها، وأسر أميرها رينودي شاتيون، وأما عن حصن أفاميا، فقد اتجه إليه نور الدين، وكان من أمتن الحصون، وأكثرها مناعة، ومع ذلك، فقد حاصره وضيق عليه، وعمل على استنزاف القوات الموجودة فيه ليلاً ونهاراً، ولم يترك لهم راحة، إلى أن حرَّر الحصن، وسيطر عليه (نور الدين محمود زنكي، علي الصلابي، ص274).
وفي حارم 557هـ، جمع نور الدين العساكر بحلب، وسار إلى قلعة حارم، وحاصرها، وجدَّ في قتالها، فامتنعت عليه لحصانتها، وكثرة من فيها من الفُرسان، فلما اشتد عليه الحال عاد إلى بلاده، ولم يقف عاجزًا، فقد أعد العُدّة في عام 559هـ، واغتنم خلو الشام من الصليبيين، وقَصَدهم، فرزقه الله الانتقام منهم، وقتلهم، ووقع في الأسر إبرنس وقومص طرابلس وابن للأمير جوسلين، وانتصر انتصاراً باهراً، وقد اشترك في هذه الغزوة ضد نور الدين القوى الصليبية والبيزنطية والأرمينية مجتمعةً، ولما جمع العساكر، سار نحو حارم، فنزل عليها، وحاصرها، فوصل الخبر إلى القوى الصليبية، فحشدوا، وجمعوا من الراجل ما لا يقع عليه الإحصاء، وملأوا الأرض، فحرض نور الدين أصحابه، فانقضوا عليهم انقضاض الصقور، فمزقوهم بدادًا، وصاروا قِددا، فأفناهم قتلًا وأسرًا، وراح نور الدين إلى حارم، ليملكها في الحادي والعشرين من رمضان لعام 559ه، وتلك كانت أهم ملامح العلاقات النورية – الأنطاكية؛ انتصارات تلو انتصارات، وقد بلغت ذروتها في معارك حارم.
أما عن إمارة طرابلس الصليبية في الشام، فقد اتسمت الدولة النورية تجاهها بصراع عنيف لإسقاط حصونها وقلاعها؛ لما لها من الموقع الهام. وفي حصن أنطرسوس، نزل نور الدين على الحصن، وقتل من كان فيه من الصليبيين، ورتب فيه الحفظة، وملك الحصون بالسيف والإخراب والأمان، ولم يقف نور الدين عن مسيرته الجهادية الحافلة بالفتوحات والانتصارات المتتالية؛ فنراه يجمع عساكره، ليدخل مناطق تابعة لإمارة طرابلس، فنزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، عازماً على دخول بلادهم، فبينما الناس في خيامهم وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد ، فأراد المسلمون دفعهم، فلم يطيقوا فانهزموا، ليكثر الإفرنج القتل والأسر، قاصدين خيمة نور الدين فخرج من ظهر خيمته عجلاً بغير قباء، فركب فرساً هنالك للنوبة، ليسير إلى حمص مقيمًا فيها ومعداً للعدة، ليعود بالنزول إلى بحيرة قدس ناصبًا الخيام ليجتمع إليه كل من نجا من المعركة، ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر المال والدواب والأسلحة والخيام، وسائر ما يحتاج إليه الجند، فعاد العسكر كأنه لم يفقد منه أحد، وبعد أن اِرتأى الجند الفرنجة، ما يجهز لهم من مصيدة أرسلوا لنور الدين طلبًا في المهادنة، فلم يجبهم إليها، فتركوا عند الحصن من يحميه، وعادوا إلى بلادهم وتفرقوا، ليتجه بعد ذلك الجيش النوري إلى الاستيلاء على حصن المنيطرة عام 561هـ/1165م، وغنِم الغنائم الوفيرة، واستولى على حصن صافينا والعريمة، وهما من حصون الإمارة المنيعة (الدولة الزنكية، علي الصلابي، ص499).
كانت سياسة نور الدين تجاه إمارة طرابلس، تتمثل في رغبته السيطرة على قلاعها وحصونها، ومما تجدر الإشارة إليه أن صراع الدولة النورية مع تلك الإمارات، قد شهد نوعين من الاحتكاك العسكري، معارك كبيرة، ومعارك محدودة، وكانت المعارك جميعها برية، وحقق فيها انتصارات قوية ضد الصليبيين.
ثالثاً: أهم الدروس والعبر والفوائد:
التفكير الاستراتيجي عند نور الدين: بعد أن تولى نور الدين الحكم؛ كرس جهوده، وإمكانيات دولته لحرب الصليبيين؛ وجعل القضاء على ممالكهم وإماراتهم وتحرير البلاد من احتلالهم من أهدافه الاستراتيجية، وسعى لتحقيق ذلك بكل مايملك من قوة، وخاض ضدهم معارك عديدة قتلوا، وأسروا خلاها أمراءهم وقادتهم، وعشرات الآلآف من رجالهم، واستعاد أكثر من خمسين موقعاً، وبلدة ومدينة منهم. ولكم يكن نور الدين محمود قائداً عسكريا فحسب، وإنما كان زعيماً سياسياً، يعلم أن للسياسة الدور الأكبر في مواجهة العدو، وبأن خوض العمليات العسكرية، إنما يكون لتحقيق الأهداف السياسية، فإذا أمكن تحقيق هذه الأهداف دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية أو باستخدامها كتهديد فقط دون التورط في القتال، فإن ذلك أفضل، وأوفر للرجال والمال والبلاد.
أهمية صلاح أولي الأمر: رحم الله الأمة، بأن هيأ لها قيادة صالحة، تمثلت في السلطان نور الدين محمود الذي جمع من حوله العلماء والفقهاء، وأشركهم في السلطة، وأعاد لهم اعتبارهم الذي يستحقونه، وسار على طريق الخلفاء الراشدين، فنهضت الأمة من جديد، وتعافت من جراحها، واستعادت قوتها وأرضها ومقدساتها وكرامتها.
الاستفادة من المسيحيين: عندما هزم مليح بن لاون الأرمني السيسني، عسكر صاحب الروم، وكان مصافيًا لنور الدين يبالغ في خدمته، ويحارب معه الإفرنج، وكان نور الدين يقاتل به، ويقول: إن ما حملني على استمالته أن بلاده حصينة، ووعرة المسالك، وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد، فينال من بلاد الإسلام.
شن حرب استنزاف مستمرة ضد الصليبيين: أعطى نور الدين محمود الأولوية في أهدافه الاستراتيجية من حيث التنفيذ لهدف تحقيق الوحدة بين الدول والإمارات الإسلامية المواجهة للإمارات الصليبية، وخصوصاً مصر وبلاد الشام؛ لأنه أدرك من خلال تحليله للموقف الدولي والإقليمي أنه لن يتمكن من القضاء على إمارات الصليبيين في بلاد الشام، وخاصة مملكة بيت المقدس قبل تحقيق الوحدة مع مصر، وإزالة الجسم الغريب في الأمة المتمثل في الدولة الفاطمية الشيعية، ثم الاستفادة من الطاقات الكامنة في الشعب المصري، ومن إمكانياته الكبيرة في المواجهة الأخيرة التي لابد أن تشترك فيها دول أوروبا إلى جانب الصليبيين في الشام، وقد حصل هذا بالفعل فيما بعد في زمن صلاح الدين؛ وثبتت صحة الإستراتيجية التي وضعها نور الدين، وبدأ بتنفيذها، ولكنه توفي قبل أن يُكملها، ولذلك اتخذ نور الدين قراراً سياسياً في منشئه عسكريًا في طبيعة تنفيذه، وهو يقصد من خلاله إضعاف قوَة الإمارات الصليبية، وكسر شوكتها، وتحطيم معنويات قادتها وأفرادها، واسترداد ما يمكن استرداده من المواقع والحصون والقلاع منها، وقتل أكبر عدد ممكن من رجالها، وهذا هو مفهوم حرب الاستنزاف والغاية منها، حتى إذا ما تحققت الوحدة بين بلاد الشام ومصر، وتوافرت الإمكانيات العسكرية الكافية تم القضاء على الإمارات الفرنجية، وإزالتها من الوجود (نور الدين محمود والحروب الصليبية، حسين مؤنس، ص230).
اعتماد اللين والمرونة والخدعة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه بالقوة: كان نور الدين محمود بحكم عقيدته، وطبيعته التي تميل إلى الرحمة والرأفة، يكره إراقة الدماء على غير طائل، ويسعى لتحقيق أهدافه بأقل الجهد والخسائر، ولا يتردد في أساليب المكر والخداع مع العدو، وقد صفه المؤرخون بأنه كان في السياسة والدهاء على جانب عظيم، وأنه كان يُكثر أعمال الحيل والمكر والخداع مع الصليبيين، وأكثر ما مَلكه من بلادهم بهذه الأساليب، اتبع هذا الأسلوب مع جوسلين (أمير الرها سابقًا) حتى تمكن من أسره. ففي عام561هـ/1166م، شن نور الدين غارة مفاجئة بسرية من الفرسان على حصن المنيطرة شرق طرابلس، وتمكن من احتلاله بالرغم من مناعته، وقوة الحامية المدافعة عنه، ولم يُجبر أمير أنطاكيا أو أي من أمراء الصليبيين الآخرين على مهاجمته، لتوقعهم أنه احتل الحصن بكامل جيشه، وليس بسرية صغيرة فقط.
الإستراتيجية العسكرية عند نور الدين
كان نور الدين زنكي من أعظم المخططين الإستراتيجيين في زمنه؛ حيث بدأ حُكمه لإمارة صغيرة؛ تتألف من مدينة حلب وضواحيها، يواجه تهديداً خطيراً من قبل الغزاة الصليبيين، ومنافسة شديدة من قبل القوى الإسلامية الأخرى في بلاد الشام والعراق ومصر. وبعد ثماني سنوات، وبعد استيلائه على دمشق أصبح الحاكم الأقوى في المشرق الإسلامي، ومن أقوى الحكام ني العالم الإسلامي، فلابد من قوة عسكرية توافرت لنور الدين، ولابد أنه أحسن إدارتها، واستخدامها، حتى تمكن من تحقيق إنجازه في التوحيد وتحرير مناطق واسعة من العالم الإسلامي.
وقد ظهرت ملامح إستراتيجية نور الدين العسكرية في تركيزه على النوعية، والفاعلية، والتعبئة العامة للأمة، والتدرج في مواجهة العدو الغازي، وتكتيكك الاستنزاف له، وتطبيقه لمبادئ الحرب الأساسية؛ بتحديده للأهداف، والحشد والمناورة، وقابلية الحركة، ووحدة القيادة، وتحقيق عنصر المفاجأة، والخديعة والاستخبارات، والجاهزية العالية، واعتماد جميع وسائل الحرب النفسية (دور نور الدين في نهضة الامة، عبد القادر أبو صيني، ص192).
كان الدور السياسي للسلطان المجاهد نور الدين محمود زنكي (رحمه الله)، من أهم الأدوار في حياته، فقد حقق من خلاله أعظم إنجازاته بتوحيد المشرق الإسلامي (بلاد الشام ومصر وشمال العراق وشبه جزيرة العرب) في دولة واحدة بزعامته، فكان هذا الإنجاز المرحلة التأسيسية الأهم في حرب التحرير ضد الصليبيين، وعزلهم، وإضعافهم فيما بعد، وقد بذل نور الدين زنكي جهوداً مضنية في سبيل تحقيق هذا الإنجاز، ظهرت من خلالها حِكمته ومَهارته السياسية، ولقد كان واضح الرؤية منذ بداية حكمه حتى نهايته، فقرر أهدافه الإستراتيجية الرئيسية، وحدد أولوياتها، ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها، فكان كما قيل: عبقرياً في التخطيط والتنفيذ، والتوحيد والتحرير.
المصادر والمراجع:
دور نور الدين في نهضة الأمة، عبد القادر أبو صيني، أطروحة دكتوراه، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي، بغداد، جامعة اتحاد المؤرخين العرب،2000م.
الدولة الزنكية، علي الصلابي، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2007م.
فن الصراع الإسلامي الصليبي، محمد عوض، ط1، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1988م.
نور الدين محمود زنكي شخصيته وعصره، علي الصلابي، ط1، مؤسسة اقرأ ، القاهرة، 2007م.
نور الدين محمود والحروب الصليبية، حسين مؤنس،ط1، مكتبة وهبة للطباعة والنشر، 1959م.