الف وأربعمائة عام من الاستبداد

الف وأربعمائة عام من الاستبداد

ما كان الإنسان يوماً الأقوى بين المخلوقات ولا الأسرع، لكنه كانالأقدر على التفكير والتدبر.. تلك الميزة منحها الخالق له، جعلت منالبعض يتجاوزون الغريزة نحو الوعي، فيعرفون الخير من الشر،ويختارون الطريق الذي يليق بإنسانيتهم.

هبة الإنسان هي العقل، ذلك العضو اسفنجي الشكل، عظيم الاسراروالخفايا، لم يختص بالمعرفة فقط، بل كان بوابةً لفهم الوجود وتوجيههنحو خلافة الأرض واصلاحها، فمنذ أن أدرك الإنسان ذاته، فهم أنالعقل هو رسالته في الأرض، وبه وحده يحقق معنى الخلافة التيتحدث عنها القرآن.

للعقل حين يُستخدم جانبان، سيء يدخل الفرد فيه في غياهب الفسادوالعبودية، وآخر جيد يصنع فيها الإنسان الحرية، لأن الساعي فيالخير يخلق التوازن بين رغباته ومصلحة الجماعة، فيرتقي المجتمع منفوضى الغرائز إلى نظام العدالة، والإنسان العاقل لا يقف عند حدودذاته، بل يتجاوزها نحو المجتمع والوطن، لأن الوعي الحقيقي لا يكتملإلا حين يدرك الفرد، أن حريته لا تنفصل عن حرية الآخرين، وأنالكرامة لا تُصان إلا بالعدل والمشاركة.

هذه النعمة هي الطريق الوحيد نحو حرية الإنسان، الحرية التي لايعيش الأفراد بدونها.. لكن يبقى السؤال، هل يستطيع العقل أن يضيعطريق الحرية، ويختار العبودية؟

حين يضعف الوعي، و يتحول الخوف إلى عقيدة، فيستبدل الإنسانقيوده القديمة بقيود جديدة، يزينها له الخطاب الشعبوي على منصاتالتواصل، ويدغدغ مشاعره صوت الرأي العام المضلل، بأن الجميعطغاة وأن الكل يرتدون قناع الدين أو الوطنية، عندها يضيعها المواطن.

الحرية لا تأتي من فراغ ولا دفعة واحدة، بل تُمارس كل يوم، تُبنىبالاختيار، وتُحرس بالمسؤولية، ومن رحم هذا الإدراك أوجدت النظمالسياسية.. الديمقراطية، باعتبارها أرقى ما وصل إليه البشر فيإدارة شؤونهم.

الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل عقد اجتماعي يضعالجميع في كفةٍ واحدة أمام القانون، ويجعل الشعوب مصدرالسلطات، فيكون الناس احرارا في بلدانهم.

وسيلة حفظ الديمقراطية هي الانتخابات، وهي ليست ساحة للترفالسياسي، بل امتحان للعقل البشري، تُظهر مدى وعي الأمة بحقهافي أن تختار من يمثلها، ففي هذا النظام، لا فرق بين العالم والأمي،ولا بين المعمم والسياسي، ولا بين الراقصة ومن يشرّع القوانين،فالجميع أصواتهم متساوية في يوم الاقتراع، كل صوت يزن وطناً، وكلورقة تُلقى في الصندوق تكتب سطراً في مستقبل الدولة.

رغم ذلك، ما زال بيننا من يرى في الديمقراطية عبئاً، والمشاركةالسياسية خطيئة، ويدعو إلى مقاطعتها، كأن الحرية خطأ يجبتصحيحه؟! هؤلاء يتناسون أن الطريق إلى الدكتاتورية يبدأ بخطوةواحدة، هي السكوت، ولكن عودة الاستبداد لن تطال الجميعبالتساوي، بل سيحترق فيها أولاً من ذاق مرارتها في الأمس القريب،الفرد الشيعي الذي كان وقود الظلم وضحيته الكبرى على مدى ١٤٠٠ عام من الإستبداد.

الحفاظ على الديمقراطية ليس دفاعاً عن نظام سياسي، بل عن جوهرالحرية الإنسانية، فحين يخسر الإنسان حقه في أن يختار، يفقدإنسانيته شيئاً فشيئاً، والوطن الذي يتخلى أبناؤه عن أصواتهم،يتركون الباب مفتوحاً أمام من يريد أن يعيده إلى زمن، كانت فيهالكلمة تُقطع فيها الألسن، والرأي يُعدم الأجساد، والكرامة تُدفن فيقاعات الخلد وسجون الطغاة.

الرسالة التي يجب أن تبقى في الضمير العراقي هي الحرية، التينتجت بعد تضحيات جسام، وشهداء أبرار، ليست حقاً مؤقتاً، بل عهدأمةٍ بأكملها مع الرب والتاريخ.. فلا تضيعوها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات