وأنا أرى صورة الحليب أينما يكون ، يأتي وجه أمي يمسكُ دمعة من شوق أزرق ويتمنى عليَّ كتابة قصيدة حب إليها. وحين انزلقت مرة على رصيف يكسوه الثلج قرب بيتي وانكسر وركي ، عرفت هي ذلك من أختي .نحبت بصمتٍ وقالت : اكتبوا له ليشرب حليب الجاموس حتى يلتئم كسره بسرعةٍ ، لا يذهب لطبيب ، حليب الجاموس فقط .
وحين أخبرت الطبيب الألماني الذي يعالجني بوصية أمي ، ضحك وقال :عليك أن تذهب الى الهند أو أفريقيا .
ضحكت وقلت له : دكتور ، كنت معلما لثلاثين عاما في وطني وكل صباح تمر عشرات من قطعان الجواميس على بعد خمسة امتار من الصف الذي أعلم فيه التلاميذ.
قال متعجبا : وهل كانت مدرستك في غابة ؟!
قلت :بل كانت في حضن الله.
لم يزل طعم ذاك الحليب الذي لم اشاهد بياضا في نظارته حين تعكس الشمس ضياءها على (طاسة الفافون ) التي نشرب منها وبالدور حين يجيء شغاتي بها في كل مساء بعد أن تُحلبْ الجواميس . لهذا لم يتخيل أي واحد منا أن تتعرض عظامه لكسر ، لكننا تعرضنا ، زميل لي ذهب الى جبهة الحرب فاخترقت شظية ساقه وكسرته ، وعاد الى مدينته ليفتش عن بائعات القيمر ليوصيهم بحليب الجاموس من ( ديس ) أمه حتى يشفى.
والثاني حين انزلقت انا امام شقتي في ظهيرة ثلج ، فلم اجد حليب الجاموس بل وجدت الجبس والتمارين الرياضية . ومع حليب الجاموس على هامش سحر تلك الذكريات الجميلة عليَّ أن أتذكر حليب ( الفيمتو ) الذي كان يجلب من الكويت في السبعينات وبطعم لذيذ حيث اشتهر هو وعصير ( النادر ) كأفضل انواع العصائر ، وكانا هما من ابرز واكثر الهدايا التي يقدمها الزائرون الى نزلاء المشافي ، والى الحجاج في عودتهم من مكة.
طوال خدمتي في قرية ( ام شعثه ) لم أرَ قنينة عصير ، ولم اشاهد احدا يتناول العصير فقد كان حليب الجاموس يتفوق في الشرب على الماء ، لان ماء الهور ملوثا فيما الحليب يخرج صافيا ومعقما ويشفي عللا جسدية لا تحصى.
في احدى الاعوام توجه من قريتنا ثلاثة رجال ذاهبين لأداء فريضة الحج ، وعندما عادوا كان على الهيئة التعليمية زيارتهم وكان علينا أن نصحب معنا هدايا الزيارة للحجاج ، وكان الشائع حينها ( القند ) وهو نوع من السكر المتحجر على شكل مخروط بوزن كيلو أو أكثر ، وعصير النادر أو الفيمتو.
قررت أنا ان اجلب الفيمتو لي ولرفاقي من المعلمين بعد أن كنت ذاهب بالصدفة الى الناصرية بمأمورية يوم واحد .
وهكذا دخل الفيمتو عالم القرية وبيوتها ، وكان لعطره وحلاوته وأغراء لونه الاسود المائل الى الاحمر المعتم سببا في ميل أهل القرية له بعد أن استطابوه واستلذوا بطعمه ، ولهذا صاروا يوصون البائع المتجول على جلبه وشراءه .
شعرت بأن الفيمتو بدأ ينافس حليب الجاموس ، وحتى شغاتي صار يجلبه لنا بدل الحليب في بعض المناسبات ، كالأعراس والختان والتسريح من الجندية وغيرها .
مرة قلت لشغاتي :يا أخي لقد هملتم حليب الجواميس.
قال : خبئناه للعوز.
قلت :متى ؟
قال :متى تتكسر عظامنا من عناق ليلي أو في معركة تواثي.