هل سيجبر فيروس كورونا العالم الرأسمالي على إعادة النظر في أبجدياته الاقتصادية ؟
كورونا الذي انتقل من الصين الاشتراكية مهد هذا الفيروس إلى أوربا الرأسمالية، ليطرح تحديات ليست على المستوى الصحي فقط، بل على جميع المستويات، ويثير تساؤلات جدلية حول مدى صلاحية النظم السياسية والاقتصادية التي تدير اللعبة عبر هذا العالم الذي جعلته هذه الأزمة يبدو صغيرا جدا، ووضعت البشرية في قارب نجاة واحد.
في عام 1989 نشر الكاتب الأمريكي المولد، الياباني الأصل فوكوياما مقالا في مجلة ناشينال افيرز بعنوان (نهاية التاريخ )استنتج فيها إن الديمقراطية الليبرالية هي نقطة النهاية في التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للإنسانية، والشكل النهائي للحكومات، وفي عام 1992 ميلادي طور نظريته هذه بإصداره لكتاب بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير ) وسع فيه مفهوم هذه النظرية، بقوله إن انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء النظام الشيوعي وما جر هذا الحدث من تداعيات كبيرة على المستوى العالمي كانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ونشوء عالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أدى هذا التطور إلى توقف التاريخ أي إن التاريخ لم يعد يشكل محورا مهما كون الحوادث المهمة والخطرة التي تحركه قد توقفت، كانت نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير رؤية جديدة بمنظور رأسمالي غربي مقابل نظرية كارل ماركس (المادية التاريخية ) والتي يرى فيها ماركس، إن التاريخ سينتهي عندما ينتهي الصراع الطبقي، وتنتصر الطبقة العمالية لتقود العالم، بعد أن يتلاشى النظام الطبقي فيه واختزل فوكوياما جميع التحديات والكوارث والأزمات الاقتصادية والأوبئة والتقاطعات وصراع النفوذ والمصالح في العالم، ومحاولة بعض الشعوب المضطهدة من استعادة حريتها ووجودها، بالصراع الذي كان قائما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، وغاب عنه إلى إن هنالك صراعا جديدا يحمل ملامح مختلفة عن شكل الصراع الذي كان قائما قبل انتهاء الحرب الباردة، سيأخذ إبعادا ثقافية واقتصادية وعقائدية، والذي أطلق عليه الكاتب الأمريكي صاموئيل هنتجتون .. (صدام الحضارات ) في مقال نشره في مجلة فورين اميرز عام 1993بعنوان (صراع الحضارات) ، وجاء هذا المقال ردا على نظرية فوكوياما ، وأشار فيه إلى إن عالم ما بعد الحرب الباردة سيشهد صراعا بين الغرب وأمريكا من جهة، والإسلام والصين واليابان والهند من جهة أخرى، وأن ما سيحكم العلاقة بين هذه الحضارات هو الصدام على أساس الاقتصاد والثقافة والهوية، وما يشهده العالم اليوم هو بوادر هذا الصراع الذي اخذ منحى أكثر رعباَ وشمولية حين أشار المتحدث باسم الحكومة الصينية إلى احتمالية أن يكون الجيش الأمريكي وراء انتشار فايروس كورونا في الصين.. لكن بغض النظر عن من يقف وراء هذا الوباء فقد أثبتت الصين بنظامها الاشتراكي الذي تهيمن عليه الدولة بشكلها الأبوي نجاحه في هذا التحدي الخطير والمفصلي الذي تمر به الإنسانية جمعاء، وانه كان الأنجع في التصدي لانتشار هذا الوباء والسيطرة عليه، عبر إدارة الدولة ومؤسساتها الاشتراكية الفاعلة لجميع مرافق الحياة في الصين، بخلاف أوربا الرأسمالية التي تواجه تحديا كبيرا وخطيرا في مواجهة هذا الوباء، عبر نظام اقتصادي وسياسي غير قادرة على الإدارة والتحكم بطريقة شمولية، وهيمنة المصالح الفردية الرأسمالية على مواجهة هذا الوباء، وهذا ما نوه إليه الرئيس الفرنسي ماكرون في قمة السبع التي عقدت منتصف 2019 بقوله، (نحن لا شك نعيش حاليا نهاية الهيمنة الغربية على العالم، فكنا معتادين على نظام عالمي منذ القرن الثامن عشر يستند إلى هذه الهيمنة الغربية، ولا شك في أن هذه الهيمنة كانت فرنسية في القرن الثامن عشر بفضل عصر الأنوار، وفي القرن التاسع عشر كانت بريطانية بفضل الثورة الصناعية، وبصورة عقلانية كانت تلك الهيمنة أمريكية في القرن العشرين.. لكن الأمور أخذت في التغير والتقلب بسبب أخطاء الغربيين في بعض الأزمات.. وتابع ماكرون: نحن عملنا معا في لحظات تاريخية، كذلك هناك بزوغ قوى جديدة، وهي قوى اقتصادية وليست سياسية، بل دول حضارية تأتي لتغير هذا النظام العالمي، وتعيد النظر في النظام الاقتصادي بصورة قوية، ومنها الهند والصين وروسيا، حيث تتميز تلك البلدان بإلهامها الاقتصادي الكبير، وأن الصين وروسيا قد اكتسبتا قدرة في العالم، لأن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة كانت ضعيفة).
هذه الرؤية التي كانت تمثل نبوءة لحال النظام الرأسمالي العالمي، إذا ما تعرض لتحديات هي اكبر من آلياته، وهذا ماحدث بالفعل، فهاهي أوربا التي تستهلك أكثر من خمس موارد الكرة الأرضية، تتحول إلى بؤرة لهذا الوباء وتجد نفسها مكبلة بقوانين ونظم اقتصادية وطموحات ومصالح فردية تحول دون احتوائه بطريقة أكثر فعالية، كما فعلت الصين الاشتراكية.. وبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام، فأن فيروس كورونا قد وجه صفعة قوية للنظام الرأسمالي العالمي، ونظرياته القائم عليها، منذ عصر الثورة الصناعية إلى انتهازية دونالد ترامب، مروراً بجون لوك وادم سمث.