ليست الفوضى حالة طارئة أو مؤقتة في حياة الأمم، بل يمكن أن تتحوّل إلى نمط مستدام يشكّل أحد أعمدة صيرورة الدولة والمجتمع. فبعض الأمم لا تنهار تحت وطأة الأزمات بل تعيد تشكيل ذاتها من خلال الفوضى، مستثمرة لحظات الانهيار كفرص للتكيّف أو التجدد. وعند إسقاط هذا المفهوم على العراق، تظهر صورة مركبة لدولة لا تزال تتأرجح بين الانهيار والبقاء، بين إعادة التشكل والتآكل، حيث الفوضى لم تعد مرحلة عابرة، بل بيئة دائمة لإنتاج الهويات والسلطات والتحولات.
فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، مرّ العراق بدورات متكررة من الصراعات والانقلابات والحروب، إلا أن لحظة 2003 شكّلت تحوّلًا نوعيًا. لم تعد الأزمات مجرد انقطاعات زمنية في مسار الدولة، بل أصبحت الفوضى نفسها الإطار العام الذي يتحرك فيه النظام السياسي والاجتماعي. الانقسامات الطائفية والعرقية، التدخلات الخارجية، ضعف الدولة المركزية، الاقتصاد الريعي، وصعود الجماعات المسلحة، كلها عوامل غذّت هذا النمط الجديد من الفوضى المستدامة. لكنها في ذات الوقت أطلقت صيرورة داخلية لإعادة التشكّل، حيث لم ينهر العراق كليًا كما حدث مع دول أخرى، بل بدأ يعيد تكوين ذاته عبر قوى محلية جديدة، وهويات فرعية تبحث عن موطئ قدم في المعادلة الوطنية.
هذه الصيرورة لا تحدث بمعزل عن الشخصية العراقية التي تكوّنت تاريخيًا في بيئة الصراع بين المركزية والفوضى. فالفرد العراقي، الذي تشكل وعيه الجمعي بين أمجاد الحضارات القديمة وويلات الاحتلالات والغزوات، يحمل سمات مزدوجة: اعتزاز بالكرامة، ميل إلى التمرد، تسامح ممزوج بالشك، وتديّن عاطفي قابل للبراغماتية. وفي الأسرة والمجتمع، تظهر سلطة الأبوية والعشيرة والدين كقوى تقليدية ضامنة للتماسك، لكنها في الوقت ذاته تُقاوَم من قِبل أفراد يسعون للاستقلالية وتحديث نمط الحياة. المجتمع العراقي إذًا يعيش انقسامًا بين التقاليد والحداثة، بين التضامن والتمزق، لكنه يظل قادرًا على النجاة في لحظات الانهيار، كما أثبتت تجاربه خلال الحروب والحصارات.
أما النخبة العراقية، فهي بدورها انعكاس لهذا التعقيد. النخبة السياسية تعاني من انقسامات طائفية ومصلحية تجعل السياسة أقرب إلى ساحة صراع منها إلى ساحة بناء، فيما يجد المثقف نفسه هامشيًا، بين تقاليد الماضي واستحقاقات التحديث. في حين تلعب المرجعيات الدينية دورًا سياسيًا بارزًا، يتراوح بين الوساطة والتأزيم، لكنها تظل عنصرًا حاسمًا في صياغة الهوية الجماعية ومقاومة التدخلات الخارجية. وعلى الصعيد الثقافي، لا تزال العراق حاضنة لطاقات شعرية وفكرية وإبداعية تعاند الخراب وتؤسس لوعي جديد رغم النزيف المستمر.
ما يميّز الحالة العراقية أن الفوضى فيها لم تُفضِ إلى زوال الدولة، بل إلى تحولها إلى ساحة مفتوحة لإعادة تعريف العقد الاجتماعي، شكل الحكم، والهوية الوطنية. صعود الحركات الاحتجاجية منذ 2019، تنامي الوعي الشعبي، توسع الاقتصاد غير الرسمي، وميل قطاعات من الشباب نحو ريادة الأعمال والتكنولوجيا، كلها مؤشرات على أن العراق لا يعيش فقط انهيارًا، بل يعيش صيرورة. لكن هذه الصيرورة غير محسومة، فهي محكومة بكيفية إدارة الفوضى: إما أن تُحوّل إلى مرحلة انتقالية نحو نظام أكثر شمولًا وعدالة، أو أن تبقى في حالة دوران داخلي يعيد إنتاج ذاته.
العراق اليوم يقف عند تقاطع طرق: بين ماضٍ من الانقسامات وحاضرٍ مشبع بالتحديات ومستقبلٍ يتوقف على قدرة المجتمع والدولة على بناء نموذج سياسي واقتصادي جديد. ليس الفكاك من الفوضى رهين معجزة، بل رهين وعي شعبي متزايد، وإرادة سياسية تخرج من منطق المحاصصة إلى منطق الدولة، وقدرة على توظيف الفوضى لا بوصفها لعنة بل كفرصة للخلق من جديد. الفوضى المستدامة في الحالة العراقية ليست بالضرورة تهديدًا نهائيًا، بل قد تكون الوجه الآخر لصيرورة أمة لم تكتمل بعد، لكنها لم تستسلم أيضًا.