لطالما كان للحكومات الأمريكية – بصرف النظر عن طبيعة الإدارة التي تحكم – وهي تمارس سياساتها الجيوبولتيكية وتطلعاتها الجيواستراتيجية في شتى بقاع العالم ، ولع باختراع التسميات الرمزية وابتداع العناوين الدلالية ، ذات الإيحاء السياسي الصارم والوقع السيكولوجي الصادم ، على أية عملية أو ممارسة تقوم بها حيال بلدان العالم الآخر ، سواء أكانت لأغراض المساعدة (الإنسانية) لصالح الحلفاء والأصدقاء ، أو لأسباب تتعلق بحروبها العسكرية والإيديولوجية ضد الخصوم والأعداء . بحيث لو تسنى لنا الاطلاع على ذخيرة أرشيفاتها السرية والتصفح لمتون سجلاتها المحظورة ، المعنية بهذا الضرب من الأنشطة والفعّاليات المتنوعة ، لتعذر علينا العثور على واقعة سياسية كانت أم اقتصادية أم عسكرية أم إيديولوجية ، دون أن يكون لها أسم خاص تعرف به أو نعت مميز تنسب إليه . والواقع إن اللجوء لهذه الظاهرة لا يقتصر على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية دون سواها من الحكومات الأخرى ، لاسيما تلك التي تتطلع أن يكون لها شأن في نطاق محيطها الإقليمي ومجال علاقاتها الدولية . كما أن هذه الظاهرة ليست حصيلة الظروف السياسية الراهنة الموسومة بالانقلابات والانعطافات ، فضلا”عما يمور في رحمها من تجاذبات وصراعات ، إنما هي نتاج تاريخ طويل من التجارب والممارسات ، التي كان الإنسان مجبولا”على خوض غمارها وتجشم أعبائها ، سعيا”وراء مصالحه وتحقيقا”لمآربه . بيد إن ما يميز الحالة هنا ويمنحها سمة الخروج عن المألوف ، ليس في كون الحكومات الأمريكية المتعاقبة رفعتها إلى مصاف المبدأ الواجب الإتّباع من لدن المسؤولين وصناع القرار ، فضلا”عن اعتباراها من لوازم الأمن القومي الأمريكي فحسب ، إنما في الطريقة المختارة والأسلوب المتبع لوضعها موضع التنفيذ . ولأن طبيعة الموضوع وحجم المسموح لتغطيته ، لا تسمحان بالإسهاب في سرد التفاصيل والإطناب في ضرب الأمثلة ، فقد وقع اختيارنا على مفهوم (الفوضى الخلاقة) الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية أثناء غزوها للعراق ، كعينة ملموسة ومعاشة لمقاربة هذا الأسلوب في التعاطي السياسي مع الأحداث ، فضلا”عن بيان الكيفية التي يتم من خلالها تغليف النوايا المشبوهة وتعليب الأطماع المفضوحة ، وذلك بإحالتها إلى صيغة مسالمة منزوعة السلاح مقبولة ومستساغة ، لها من جاذبية التسمية وقوة الإيحاء ، ما يجعلها أداة فعّالة لتسويق السياسات المدانة وتبرير التصرفات المستهجنة من جهة ، وإشاعة الانطباع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي ، بان مرحلة (الفوضى) الناجمة عن وحشية التدخل العسكري ، سيعقبها طور مغاير من التغييرات (الخلاّقة) والتحولات (البناءة) . ولهذا يصف وزير الدفاع الأمريكي السابق (رونالد رامسفيلد) ((عمليات سطو الرعاع على متحف بغداد في 9/4/2003 ، بأنها عمليات ايجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد ، مضيفا”ذريعة أن العراقيين ليسوا معتادين على الحرية وجاءت أول فرصة لهم للتعبير عما يختلج في نفوسهم)) . وهنا لسنا في وارد تذكير القارئ اللبيب حيال اختيار المجتمع العراقي ليكون المرشح الأنسب لاختبار تلك الطروحات النظرية ، والذي كان رصيده منها يمثل حصة الأسد ، ليس أولها سياسة (الاحتواء المزدوج) التي دخلت حيّز التنفيذ ، أثناء حرب العراق مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي ، مرورا”(بعاصفة الصحراء) في حرب الخليج الأولى ، و (حرية العراق) التي اختيرت كعنوان للشروع بالحملة العسكرية والسياسية ضد النظام السابق مطلع العام 2003، وما نجم عنها من تداعيات وترتب عليها من مخلفات ، لن تني تطرح الكثير من علامات الاستفهام إزاء جدوى ذلك العمل المرتجل في تخطيطه والمتهور في تنفيذه ، فضلا”عن مدى توافقه مع معايير الشرعية الدولية ، وصولا”إلى (الفوضى الخلاّقة) التي لن تكون الأخيرة بالتأكيد . وإذا كان فحوى صيغة (حرية العراق) يتضمن دلالة الفعل المحدد (بإسقاط) تجربة الحكم السياسي السابق في العراق ، باعتبار كونها جنحت بعيدا”عن قيم وممارسات الفكرة الديمقراطية ، ومن ثم ذهبت إلى غير رجعة صوب الأساليب اللاانسانية ، عبر تبرير العنف ضد الداخل وتسويغ الكراهية ضد الخارج . فان ما تستهدفه صيغة (الفوضى الخلاّقة) ، ليس فقط الحفاظ على ما حققته الصيغة الأولى من نتائج وما جنته من ثمار ، وتاليا”الحيلولة دون عودة مساوئ الدكتاتورية وتكرار كوارث الشمولية فحسب ، إنما نسف البنى الاجتماعية ، وتقويض الأسس الاقتصادية ، وإسقاط العمائر الثقافية ، وتدمير الهياكل الحضارية ، وتشويه المرجعيات الرمزية . وذلك من خلال الحفر في طبقات المسكوت عنه ، والنبش في طمى الممنوع التفكير فيه ؛ لا من أجل البحث عن المشتركات في أحداث التاريخ ووقائع الجغرافيا ورموز الثقافة وأنماط الوعي ، لرأب التصدعات في الشخصية الاجتماعية ، وإيقاف الانهيارات في الهوية الوطنية ، ومنع الاندثارات في المواطنية العراقية . وإنما – وهو المطلوب تحقيقه – لكي تستدعي أساطير الذاكرة التاريخية بكل عقدها ، وتستجلب خرافات المخيال الجمعي بكل تهويماته ، تلك التي من شأنها إفاقة الخلافات الكامنة من رقادها ، وبعث الكراهيات الهاجعة من سباتها ، واستدعاء الانقسامات الرابضة من مخابئها . وهو الأمر الذي أفصح عنه أحد أبرز أعلام المحافظين الجدد (مايكل ليدن) حين قال ((إن التدمير البناء هو صفتنا المركزية ، وان الوقت قد حان لكي تصدر الثورة الاجتماعية)) . ولا يظنن المرء الواقع تحت تأثير سطوة وسائل الإعلام المؤدلج ، أن الإدارة الأمريكية كانت – حين عقدت العزم على غزو العراق – تجهل طبيعة تكوين المجتمع العراقي ، من حيث كونه فسيفساء سوسيولوجية وانثروبولوجية قائمة على توازن قلق يعكس حالة ؛ تنوع أقوامه واختلاف أديانه وتباين طوائفه وتعدد قبائله وتغاير ثقافاته ، كما لا يتوهم بأن ليس لديها أية معلومات عن خصوصيات عاداته وأعرافه ، والتباسات تاريخه وجغرافيته ، واحتقانات ذاكرته ومخياله . إذ إن كل هذا وغيره كثير مما نجهله ونعجز عن إدراكه نحن أصحاب الشأن ، كان مطروحا”أمامها ومتاحا”لديها بالتفاصيل الدقيقة والأرقام المضبوطة ، لاسيما وأن أرشيفات وملفات حليفتها بريطانيا كانت ولا تزال تعج بالوثائق النادرة والمعلومات السرية ، التي لا ينال البحث في الشأن العراقي درجة الوثوقية والمصداقية ، إلاّ إذا استشارها واعتمد عليها في التحليل والتأويل . وخصوصا”لجهة المعرفة التي كونتها والخبرة التي راكمتها ، خلال فترة احتلالها للعراق مطلع القرن المنصرم ، والتي لم تعمد فقط لتوظيف الخلافات الطائفية واستثمار الصراعات القبلية فحسب – بعد أن عجز العثمانيين عن لجمها والسيطرة عليها – بل وأضفت عليها طابع مؤسسي مقبول اجتماعيا”ومشروع عرفيا”. ولأنها كانت على دراية كافية بحقيقة أن الإنسان المأسور في إرادته والمحجور في وعيه والمغدور في حقوقه ، لا يلبث أن يستحيل إلى خزان ملئ بالنوازع المتصارعة والانفعالات المتفجرة ، بحيث يصعب السيطرة عليه والتعامل معه . فقد أطلقت الإدارة الأمريكية المحتلة العنان لموجات الجماهير الغاضبة ، لتمارس ، دون الخوف من رادع أو الخشية من وازع ، عمليات السلب والنهب والتدمير للممتلكات العامة بصورة سافرة وبربرية . ليس من باب التعاطف مع حقوقها المهدورة والاستجابة لمطاليبها المقموعة ، وتعويضا”لها عما وقع عليها من حيف ولحق بها من غبن على مدى عقود من الزمن . وإنما بقصد حملها على تفريغ شحنات العداء المتراكم في نفوسها ضد أي نوع من أنواع السلطة من جهة ، والسماح لها بإطلاق طاقات التدمير والتخريب الرابضة في وعيها ضد أي شكل من أشكال المنع والردع من جهة ثانية ، وحثها على المباشرة بإسدال الستار على كل ما يذكرها بقيم رموزها وأعراف اجتماعها وتقاليد ثقافاتها من جهة ثالثة . ومن ثم تشجيعها لتبني حالة من القطيعة الجذرية ، مع كل ما له علاقة بالمحرمات الدينية والنفسية ، والتنصل عن كل ماله صلة بالمحظورات الاجتماعية والأخلاقية من جهة رابعة . وهكذا فقد كان الهدف الرئيسي الذي رمى إليه مخططي الاستراتيجيات وصانعي القرارات في مراكز البحوث الأمريكية ، عبر اختبار نظرية (الفوضى الخلاّقة) على الوضع العراقي لما بعد السقوط ، لاسيما وإنها كانت مصممة لبلدان الشرق الأوسط بصورة عامة ، يتمحور حول خلق حالة يصبح فيها الإنسان العراقي ؛ مقتلع من أصوله الاجتماعية ومنسلخ عن هويته الوطنية ومغترب عن مرجعياته الرمزية ، ومن ثم تسهل السيطرة عليه والتحكم بخياراته والتلاعب بمقدراته والمتاجرة بمصائره . ولقد أجاد أحد الكتاب العرب حين وجد إن نظرية الفوضى الخلاّقة تتضمن الدعوة الشيطانية التي تقول ((تذابحوا ، اقتلوا بعضكم بعضا”، واغرقوا في العنف والحروب الأهلية .. سندعم هؤلاء أو أولئك منكم ، وسنرى ما يمكن أن يتمخض عن ذلك كله)) . أخيرا”يبقى لنا أن نتساءل ؛ هل أتت تلك الصيغة أوكلها على أرض الواقع العراقي ، بما ينسجم وطموحات مبتكريها الرامية إلى تفكيك البنى التحتية للشخصية العراقية وتقويض أسس هويتها الوطنية ؟! ، وهل يا ترى حققت نبوءة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (مادلين أولبرايت) التي نصحت من خلالها رئيسها السابق (بوش) ، من أن ترك المجتمع العراقي (ينضج على نار هادئة) قمين بتحقيق أهداف الولايات المتحدة في العراق الجديد ؟؟!! ، سؤال نحيل حق الإجابة عنه لفطنة صاحب الشأن القارئ ، الذي لابد أن يكون – بطريقته الخاصة – قد استوعب الدرس واستخلص العبرة ! .
[email protected]