18 ديسمبر، 2024 6:43 م

الفوضوية الدولية وصعود النيوليبرالية وأزمتها؟

الفوضوية الدولية وصعود النيوليبرالية وأزمتها؟

شهد النظام السياسي الدولي تحولات كبرى منذ مرحلة تأسيسه حتى توظيفه المعاصر، وكانت تحولات النظام تابعة لظروف البيئة الدولية وحاجاتها والتوجهات السياسية والاقتصادية السائدة.لاسيما أن النظام السياسي الدولي يمثل مجموعة من القواعد والمعايير المرتبطة والتي تحكم مجمل عمل العلاقات بين الدول خلال فترة زمنية معينة. وللنظام السياسي الدولي أكثر من تعريف وضعها العديد من الباحثين السياسيين كان أبرزها أنه عبارة عن مجمل العلاقات التي تقوم بين متغيرات تُدعى الفاعلين، والفاعل هو شخص العلاقات الدولية. ويعتبر (مارسيل ميرل) الشخص الدولي أو الفاعل الدولي هو كل سلطة أو هيئة أو تجمع وكل إنسان مؤهل أن يلعب دوراً على الساحة الدولية. ويرى (مورتن كابلان) أن النظام السياسي الدولي هو عبارة عن حركة تفاعلية دائمة يعمل وفق آلية الفعل ورد الفعل. بمعنى انه ليس نظاما جامدا، كما انه لا يتحرك من خلال سلطة قاهرة تملي على بقية الوحدات الأوامر فتلقى الاستجابة لها.

وبحسب (ديفيد استن) فان النظام السياسي الدولي هو عبارة عن هيكل مفتوح لاستقبال مدخلات من المحيط الخارجي تميل لخلق التوازن داخل النظام من خلال التفاعل وتفرز سلوكا (مخرجات)تشكل في مجموعها النظام السياسي الدولي.

ومن وجهة نظر (كينيث بولدنغ) أنه مجموعة من الوحدات السلوكية المتفاعلة التي تسمى أمما أو دولا التي يضاف أليها أحيانا بعض المنظمات فوق القومية كالأمم المتحدة ويمكن توصيف كل وحدة من هذه الوحدات السلوكية بأنها مجموعة المتغيرات التي يفترض وجود علاقة معينة فيما بينها. وفقا لما تقدم، أن النظام السياسي الدولي لا يخرج عن كونه نتاج لأنماط من التفاعلات يمكن رصدها بين العديد من الوحدات السياسية التي يتشكل منها.

وقد نتج عن التحولات الراهنة في النظام السياسي الدولي حالة (الفوضوية الدولية) وهي تلك التي ترسخ من حالة الفراغ على مستوى القيادة نتيجة للتوجه الانسحابي للولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وعدم قدرة أي من الدول الكبرى أو التحالفات الدولية على سد هذا الفراغ وتحمل تكلفة وأعباء قيادة العالم من جهة أخرى. وكذلك عدم قدرة المنظمات والتحالفات على وضع القواعد المنظمة للتفاعلات الدولية.كل هذه التطورات تثير سيناريو الفوضى الدولية، وافتقاد التعاون والتنسيق الدولي خاصة في ظل تعرض نموذج السوق الحرلمعارضة متصاعدة، ولعل الحرب التجارية الدائرة حاليا بين الولايات المتحدة والصين من أبرز الأمثلة على ذلك.

في السياق ذاته كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيإحدى أهم مؤشرات الفوضوية الدولية، حيث بدأت الشكوك على مستقبل الاتحاد الأوروبي والمخاوف من أن تكون تلك الخطوة بداية تفكك الاتحاد كله خاصة في ظل صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا المعادية للمنظمة الإقليمية. عليه أدت كل هذه المتغيرات إلى تصاعد الجدل حول مستقبل هيكل النظام الدولي، وهو الجدل الذي أفرز حالة من الفوضوية الدولية.

وقد اعتبر المفكر والأكاديمي الأمريكي (ريتشارد هاس) الذي كانيشغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجيةالأمريكية، أن انعدام القطبية الذي يتسم فيه النظام الدولي نتيجة لغياب تركز القوة نتج عنه حالة الفوضوية الدولية، حيث أصبحت القدرات والموارد موزعة بين عدد كبير من الفاعلين مثل، الصين، الهند، الاتحاد الأوروبي، اليابان، روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية.

إن توصيف التحولات في النظام الدولي تمثل في فكرة انتقال القوة. من هذا المنطلق يرى استاذ الاقتصاد (روبرت كابلان) أن مركز ثقل القوة مستقبلا سيكون في القارة الآسيوية وتحديدا الصين. بالمقابل هناك اتجاه آخر يستبعد فكرة القيادة الصينية للنظام العالمي. حيث يرى أنصار هذا الاتجاه أن مستقبل النظام الدولي سيتوقف على ما ستفعله الولايات المتحدة الأمريكية، وما إذا كانت ستغير من سياستها تجاه الصين وتعمل على استعادة قدرتها الانتاجية لتقلل من اعتماد العالم على الصين.

والواقع إن للتحولات التي عصفت بالعالم منذ نهاية الحرب الباردة العديد من مرتكزات النظام السياسي الدولي، موضع التساؤل، ومنأهمها: حدود الدول، والسيادة، المواطنة. وهكذا تطور الجدل حول واقع الدولة المعاصرة ومستقبلها، وظهرت اتجاهات شتى، تحدث بعضها بثقة عن (موت الدول)، كما ظهرت تعبيرات مثل (الدول الفاشلة).

وفي المقابل شككت اتجاهات أخرى في جوهرية ما يجري من تحولات وتأثيراتها على النظام السياسي الدولي، حتى إنها اعتبرت أن العالم كان أكثر اقتراباً من مضمون العولمة تجاريا، في مراحل تاريخية سابقة مما هو اليوم. والواقع أن التقسيم السياسي للعالم لم يستقر على شكل يمكن اعتباره نهائيا، حيث تلعب الفوضويةعادة دوراً رئيسياً في طبيعة النظام السياسي الدولي، فلا تزال احتمالات الوحدة والاندماج بين الدول وكذلك احتمالات التفكك والانقسام والانفصال داخل الدول القائمة حاليا أمرا واردا، وعلى سبيل المثال فقد تغيرت الخريطة السياسية للعالم ثلاث مرات خلال القرن العشرين. حيث ترتب على الحربين العالميتين الأولى والثانية اختفاء دول وظهور دول أُخرى كثيرة على المسرح الأوروبي، إضافة إلى ظهور حركات مناهضة الاستعمار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حصول عدد كبير جدا من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على استقلالها ومن ثم إلى ظهورها لأول مرة على مسرح السياسة الدولية

إذن (تعتبر الفوضوية) الدولية الفاعل الرئيسي في النظام الدولي،وهي فوضوية مصادر القوة والنفوذ بالإضافة إلى أن حالة الفوضوية أصبحت تمتع بسلطة عليا وقاهرة تستطيع من خلالها فرض إرادتها على النظام الدولي.

صعود النيوليبرالية وأزمتها:

وكما ذكرنا آنفا، فقد شهد النظام الدولي تحولات مهمة منذ نهاية الحرب البادرة وسقوط الاتحاد السوفيتي ونموذجه الاشتراكي. وكان من أبرز هذه التحولات تلك المتعلقة بالنظام الاقتصادي العالمي وهيمنة نموذج اقتصاد السوق وترابط الأسواق الذي أصبح يعرف بالعولمة الاقتصادية.

ويعود الاهتمام بالاقتصاد السياسي الدولي إلى القرن السابع عشر، حيث سيطرت أفكار الماركنتيلية الكلاسيكية على سياسات الدول من حيث ضرورة إخضاع السياسات الاقتصادية للاعتبارات السياسية لتسهيل حصول الدولة على مصادر القوة والتي كانت تقاس بالذهب تحديدا في تلك المرحلة. في المقابل ظهرت أفكار آدم سميث التي عبر عنها في كتابه (ثورة الأمم) والتي أكد فيها أهمية الاعتماد على آلية السوق إيمانا بعقلانية الأفراد، وضرورة اقتصار الدولة على توفير الأمن، بمعنى إعطاء أولوية للاقتصاد على السياسة. (كارين منغست… كتاب مبادئ العلاقات الدولية ص426 ص428).

تجدر الإشارة إلى أن الاهتمام بدراسات الاقتصاد السياسي الدولي قد مر بمراحل متعاقبة من الصعود والهبوط نتيجة للمتغيرات في فكر وواقع طبيعة العلاقات الدولية. فقد تراجع الاهتمام بالقضايا الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية لتتصدر قضايا الأمن العسكري وسباق التسلح وتوزان القوى أجندة السياسات الدولية في ظل تطور الحرب الباردة. ثم تجدد الاهتمام مرة أخرى في منتصف السبعينات، وصولا إلى المرحلة الراهنة منذ نهاية الحرب الباردة التي شهدت تصاعد الاهتمام بالعولمة الاقتصادية جنبا إلى جنب مع الابعاد القيمية المتعلقة بالتاريخ والثقافة والدين.