18 ديسمبر، 2024 4:21 م

الفهم في عالم يسوده الخلاف

الفهم في عالم يسوده الخلاف

إن العلاقات التي تتعقد بسبب عدم فهم طرف للطرف الآخر هي علاقات لم تُبنَ على أساس صحيح، أطرافها لم تدرك أن العنصرين اللذين من ينبغي وجودهما في أي علاقة يُراد دوامها لمصلحة ما -عاطفية أو مادية أو أيًّا كان نوعها- هما “إدراك حتمية الاختلاف وتقبله”، أما الاختلاف فصحيّ تمامًا؛ وجوده محرّك للحياة، وانعدامه رتابة.. والرتابة أخت الموت.

إن سادت ثقافة تقبّل الاختلاف ستسود على إثرها ثقافات أخرى تابعة: احترام الاختلاف، البحث عن مواطن قوة الاختلاف، الانتفاع من الاختلاف، تقدير الاختلاف… ولستُ أقصد الاختلاف فكريًّا فقط. إن احترام وتقبل اختلاف اللون والأديان والاعتقادات الفلسفية والتخصصات العلمية والوظائف يؤثر على احترام تنوع الأذواق، ولأن تدريب النفس على تقبل ما سلف ذكره صعبٌ فإن أسهل الحلول أحيانًا أن نبدأ بالخطوة الأخيرة، أي أن نبدأ باحترام الأذواق، والذي بدوره يقودنا إلى تقبل أي اختلاف آخر بين الواحد منا والآخرين.

قد يبدو هذا الأمر مثاليًّا إلى حد ما ولكن الحقيقة هي أنه لا يمكن أن يتغير العالم كله، لا يمكن أن تتقبل المجتمعات كلها المجتمعات الأخرى ولا حتى أفراد المجتمع الواحد نفسه، فالثقافة الفكرية هذه -وأي تطور فكري آخر- تتكئ على أكتاف كثيرة، فنوع سياسة الدولة، ونوع تشريعات الدين المُعتَنَق، ودرجة التعلم، والطبقة الاقتصادية وغيرها من العوامل تدخل جميعها في تكوين مدى قدرة كل مجتمع -وكل فرد- على تقبل الآخر -أو تطويره لفكرة ما- ورغم وجود من قد ينكر ما سأذكره إلا أني أثق بواقعه، وهو أن هذه العوامل يتعدى تأثيرها ذلك إلى أن تؤثر في مدى تمسك المجتمعات وأفرادها حتى بطبيعتهم الإنسانية.

ولأن الأمر معقد وبديهي في الوقت ذاته إلى هذه الدرجة، يواجه الفنان -أيًّا كان فنه- صعوبات عدة في الوصول إلى ذائقة الآخرين بمجرد أن يضع في اعتباره ضرورة إعجاب الآخرين بما ينتج من أعمال، فيتأخر الأديب، ويفشل المخرج، ويُنسى المغنّي، ويُحبط الرسّام، فقط لأنهم لم يخرجوا الفكرة والشعور بالطريقة التي يرونها هم مناسبة، بل بالطريقة التي برأيهم: قد تعجب وتناسب الآخرين.

أحيانًا ما تكون أبسط الأمور التي يتخذها الفنان درعًا له -وإن انتهج ما رآه مناسبًا غير مكترث لآراء الآخرين وتقبلهم من عدمه- هي الحياد، فيكون محايدًا غير مصنفًا نفسه تحت أي ميولٍ، وغير مبدٍ رأيه حول أي قضية كبيرة، وهذا ما شاع في الآونة الأخيرة مع التقدم التقني ومع تطور الوسائل الإعلامية، في حين أن الفنان القديم، الرسام والأديب والمغني والممثل كان أجرأ، كان أقرب إلى نفسه من الآخرين، كان يترك الأمر لريشته وآلته وقلمه، ويطلق العنان لنفسه، ويوضح مواقفه من أي شيء بكل شفافية لمن يسأله عنها، لأنه لم يكن يشعر أنه يعيش على مسرح وأن كل العالم لجنة تحكيم تنتظر منه الوقوع في خطأ المعية والضدية، وكان يصل إلى حيث تستحق أصالته حتى بعد مماته، أما اليوم وفي ظل هذه الامكانية الكبيرة للوصول إلى العالم بأسره تقيّد هذه اللجنة أطرافه الأربعة فيكون رهن إشارة الجميع فقط ليكون مقبولًا.

قد أبدو وكأني أعمم الأمر، أو أصفه مجازيًّا بالحتمية، إلا أني لا أجزم إلا بوجوده عند الغالبية ممن يرغبون بالوصول إلى الآخرين، وإن اختلفت نسبته عند كل منهم إلا أن هذا الخوف – المقصود وغير المقصود- ما يزال مُمارَسًا ومتفشيًا بدرجة كبيرة تعيق تقدم الفنان وصاحب الرأي الواحد، وبالتالي تؤخر تقدم المجتمع الواحد.. فما الحل؟ الحل أن تبدأ بتقبل الآخرين بالسماح لهم باتخاذ مواقف مختلفة عنك، واحترام تعبيرهم عن موافقتهم ومعارضتهم، لتستحق في المقابل تقبلهم وسماحهم باتخاذك مواقف مختلفة عنهم واحترامهم لتعبيرك عن موافقتك ومعارضتك، ولتستطيع الاستمتاع بذوقهم ونتاجهم، فيستمتعون بذائقتك وما تنتج.

سأتقدم الطابور، ولا تتبعني، بل تقدم طابورك الخاص، دعني أراك بجانبي أو في الجهة التي تقابلني، دعني أراك بوضوح، وأسمعك بوضوح وسأحدثك بوضوح، تحدث كيفما شئت وبما تشاء واسمع مني ما أشاءُ وكيفما كان، أطلعني على ما تريد من جعبتك وهاك ما أختارُ مشاركتك إياه، سأكون أنا دون أن تقارنني بغيري أو بنفسك وكُن أنتَ وسأُقدّرُكَ لنفسك، لنستمتع بوجودنا، ونتلذذ باختلافنا، ونتطور بتقبلنا، ونُديم سَرِيّتي وسَرِيّتك بالتفاهم.