الفهم الشرعي بين الحرف والمقصد : دراسة مقارنة للاخبارية والاصولية في ضوء الادلة الشرعية

الفهم الشرعي بين الحرف والمقصد : دراسة مقارنة للاخبارية والاصولية في ضوء الادلة الشرعية

المقدمة
في تاريخ الفكر الشيعي، لم يكن الخلاف بين العلماء مجرد تباين في الرأي الفقهي، بل كان صراعًا فكريًا عميقًا حول كيفية فهم النصوص الدينية وكيفية التعبد بها. فقد أفرزت التجربة العلمية والاجتهادية لدى الفقهاء مدرستين رئيستين: الأخبارية التي تمسكت بالنصوص حرفيًا، والأصولية التي وضعت العقل والاستنباط ضمن أدوات فهم الشرع، بهدف الوصول إلى مقاصد الشريعة العليا.

هذا الصراع ليس مجرد جدال نظري، بل انعكس على حياة الناس اليومية، في تفاصيل عباداتهم ومعاملاتهم، وفي طريقة تعاملهم مع المسائل المستجدة والغيبة الطويلة للأئمة المعصومين (ع). فقد أصبح السؤال المركزي: هل يُقتصر الالتزام على النصوص كما هي، أم يمكن استخدام العقل لاستنباط الحكم بما يحافظ على روح الشرع ويحقق مصالح الناس؟

في هذا السياق، يبرز الخلاف بين المدرستين كصراع بين التمسك باللفظ والتمسك بالمقصد، بين الجمود والمرونة، بين التقليد المطلق والاجتهاد المنضبط، وهو صراع فكري عميق أثر في تاريخ الفقه الشيعي ومستمر تأثيره حتى يومنا هذا.

1. مصادر التشريع

تختلف المدرستان اختلافًا جوهريًا في مصادر التشريع:

الأخبارية تقتصر على القرآن الكريم والسنة والروايات عن أهل البيت (ع) فقط، ولا تعتمد على العقل أو الإجماع كأدوات لاستنباط الأحكام.

الأصولية تعتمد على القرآن والسنة والعقل والإجماع، حيث يُعتبر العقل أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام، خصوصًا في القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نص صريح، مما يتيح التعامل مع مستجدات العصر دون تعارض مع الشريعة.

2. التعامل مع الروايات

الأخباريون يقبلون الروايات حرفيًا، مع قلة التحقيق في السند أو الرواة، ويعتبرونها قطعية الصدور.

الأصوليون يخضعون الروايات لدراسة دقيقة وفق علم الرجال وقواعد الجرح والتعديل للتحقق من صحة السند ودلالة النص قبل اعتماد الحكم.

3. الاجتهاد والقياس

الأخباريون يرفضون الاجتهاد بالمفهوم الأصولي، ويكتفون بالنصوص المنقولة كما هي.

الأصوليون يشددون على الاجتهاد باستخدام قواعد الأصول والقياس العقلي لاستنباط الحكم الشرعي، خصوصًا في المسائل المستجدة.

4. المرجعية والتقليد

الأخباريون يعتبرون الرجوع إلى النصوص كافيًا، ولا يشترط وجود نظام مرجعية رسمي.

الأصوليون أسسوا نظام المرجعية، حيث يُرجع الناس إلى المجتهد الجامع للشرائط لتطبيق النصوص واستنباط الأحكام بما يحقق مقاصد الشريعة.

5. التعامل مع الحوادث الواقعة والمستجدات

الحوادث الواقعة هي المسائل التي تظهر بعد غيبة الإمام ولم يُذكر لها نص واضح:

الأخباريون غالبًا ما يتوقفون عند غياب نص صريح أو يتبعون نصًا واحدًا من الروايات، مما قد يؤدي إلى الجمود.

الأصوليون يستخدمون قواعد الأصول والعقل لمعالجة كل حادثة مستجدة مع مراعاة المقاصد العامة للشريعة.

6. مثال عملي: صلاة الجمعة في زمن الغيبة

تُعد صلاة الجمعة مثالًا واضحًا للاختلاف:

بعض الروايات تقول بوجوبها، وبعضها بالاستحباب، وأخرى بالكراهة أو الإباحة.

الأخباريون إذا تعارضت النصوص غالبًا يختارون نصًا واحدًا أو يتوقفون، ما يجعل التعبد بالنصوص تحديًا.

الأصوليون يفهمون النصوص في سياق مقاصد الشريعة العليا، مثل اجتماع المسلمين والتذكير بالشرع، ويستنبطون حكمًا متوازنًا يحقق الهدف حتى في غياب نص صريح.

7. فهم النصوص المتناقضة والتعامل معها

إحدى أهم المسائل التي تبرز الخلاف بين المدرستين هي تعدد أحكام النصوص على قضية واحدة: وجوب، استحباب، كراهة، إباحة، حرمة.

الأخباريون: الالتزام بالنصوص حرفيًا، مع التوقف أو الاحتياط عند التعارض، وعدم الاجتهاد الشخصي.

الأصوليون: استنباط الحكم النهائي وفق مقاصد الشريعة، الجمع بين النصوص أو اختيار الحكم الأقرب للغرض الشرعي، مع مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، مع عدم إلغاء أي نص.

8. مقارنة شاملة بين المدرستين

يمكن تلخيص الاختلافات بين المدرستين على النحو التالي:

مصادر التشريع: الأخبارية تكتفي بالنصوص، الأصولية تشمل العقل والإجماع.

التعامل مع الروايات: الأخبارية تتقبل النصوص حرفيًا، الأصولية تحقق في السند والدلالة.

الاجتهاد والقياس: الأخبارية ترفض الاجتهاد، الأصولية تعتمد الاجتهاد المنضبط.

المرجعية والتقليد: الأخبارية لا نظام مرجعية، الأصولية تؤسس نظام مرجعية مع المجتهدين.

الحوادث الواقعة والمستجدات: الأخبارية غالبًا توقف، الأصولية تستنبط الأحكام وفق المقاصد.

مثال صلاة الجمعة في زمن الغيبة: الأخبارية تختار نصًا واحدًا أو تتوقف، الأصولية تجمع النصوص وتستنبط الحكم الأقرب للمقصد الشرعي.

فهم النصوص المتناقضة: الأخبارية التزام حرفي بالنصوص، الأصولية استنباط متوازن وفق المقاصد.

أشهر أعلام: الأخبارية: أمين الاسترآبادي، الحر العاملي، يوسف البحراني. الأصولية: الشيخ المفيد، الشيخ الطوسي، العلامة الحلي، الوحيد البهبهاني، الشيخ الأنصاري.

الخلاصة: الأخبارية أقرب للتعبد بالنصوص مباشرة، محدودة في المستجدات. الأصولية أقرب للتعبد مع الاجتهاد العقلاني ومرونة في التطبيق.

يتضح من الدراسة أن الخلاف بين المدرسة الأخبارية والمدرسة الأصولية ليس مجرد اختلاف في القواعد، بل تجسيد لصراع أزلي بين النص والعقل، بين الحرف والمقصد. الأخبارية تلتزم بالنصوص حرفيًا، ساعية إلى التعبد الكامل بالنصوص، لكنها تبقى محدودة في مواجهة المستجدات. بينما الأصولية تمنح الفقيه أدوات الاجتهاد العقلي المستنير بالمقاصد الشرعية، ليوازن بين النص والغاية، ويستنبط الحكم الذي يحافظ على الدين ويحقق مصالح العباد.

وبذلك، يصبح الاجتهاد الأصولي ليس مجرد ممارسة فقهية، بل فن التوازن بين النصوص ومقاصد الشريعة، ووسيلة لضمان استمرار التعبد الشرعي في عالم متغير، مع الحفاظ على روح الدين ومبادئ العدالة والإحسان. وفي قلب هذا الخلاف الفكري، نجد الدرس الأعمق: أن التدين الحقّ لا يقف عند حرف النصوص فقط، بل يسعى لإدراك الغاية الإلهية وتحقيق مقاصد الشريعة في كل زمان ومكان.

وفي النهاية يظل هذا الصراع موضوعا مفتوحا امام القارىء ليتامل فيه ويستخلص الراي الذي يرى انه الاقرب لرضا المولى صاحب العصر والزمان عج وادراك حقيقته دون ان نفرض اي موقف لفرض راي على الاخر فالمقال بحث فيه توضيح وافي ومبسط لكلا المدرستين وهو يقدم للقارى الكريم المعلومة والتحليل دون الانحياز لمنهج وهو بحث صحفي استقصائي اكاديمي ومهني ليترك للقارىء حرية الاستنتاج وليفتح امامه طريقا للبحث والتامل ويساهم في اثراء الموضوع علميا

د – صلاح ال خلف الحسيني

كاتب صحفي

أحدث المقالات

أحدث المقالات