19 ديسمبر، 2024 1:51 ص

الفن…بين الموهبة والتكلف

الفن…بين الموهبة والتكلف

هل امعنت النظر والمشاهدة في (أم غانم) سهام السبتي حينما (عبوسي) يترجم لها مايقرأه حجي راضي من “الهندي”! -اللغة التي كتب بها الرسالة ولدها المغترب في الهند، كما يزعم حجي راضي -..الى العربي ؟!
انت كمشاهد تعرف ان الأبن لم يكتب بالهندي وحجي راضي وعبوسي كذلك يعرفان..فادوارهم اذن لاتحتاج الا الى ادعاء القراءة بالهندي والترجمه الى العربي وقد اجادا وامتعا ولاشك ..ولكن انظر الى حاجة وجهد تلك الفنانة الفريدة الى اظهار انها مصدقة ان ابنها كتب بالهندي ، واظهار انها لم تدر انهم يدارون جهل الحجي بالقراءة العربية ..جمعت ذلك بالاشتياق واللهفة لأخبار الولد المغترب ..وهي بحاجة ايضا الى ايصال انها تحاول ان تلحق القراءة والترجمة ملتفتة الى القاريء مرة والى المترجم تارة اخرى ، وان تجامل الحجي عندما تكتشف انه كان يقرا خطأ لانه ضعيف بالنقاط (كما برر عبوسي) غامزا “استاده” في الصنعة وولي نعمته .
تمعن فيها جيدا وهي تلتفت بعفوية كاملة الى عبوسي – الذي ينتقد استاده او يدافع عن ضعفه في القراءة رغم التحاقه بدروس محو الامية- فتقول بطيبة المرأة الحرة الحانية : “..اي ميخالف يتعلم ..” وانظر الى وجهها المبتسم المجامل الصابر المتشوق المنتظر للاخبار والمحتمل لفوضى الحلاق و”صانعه” فتاه، (ابناء المحلة الطيبيبن الذين يحاولان المساعدة) ..كل ذاك في مشهد كوميدي لايبدو على صانعيه الكوميديا ..بل لعلها تراجيديا بشكل ما ومن منظور أعمق ..وانظر الى عينيها وهما تدوران وتتوسلان النتيجة ..وانظر الى الجلسة العفوية البسيطة لمراة في باب الدكان ..وهي تلم عباءتها البغدادية كل حين وتقول مشجعة ومسترضية الحجي العنيد المكابر: “صدقة على راسك حجي خلي يترجملك “. وتابع بدقة عينيها وفمها المفتوح -أملا- وهي تراقب مشاحنتهما على صحة الجمل ..وعناد الحجي واصرار عبوسي ..بل انك بعد حين تنتبه الى انك لم تكن بحاجة الى المتابعة والتدقيق المقصودين لأن المشهد وعفوية هذه المرأة المتكاملة الاداء التمثيلي جعلك تنسى انك امام امرأة تمثل ،وهي تنظر الى كل جهة الا الى الكامرات ، والأغرب من هذا انك حتى وان تنبهت الى ان الرجلين -برفقتها في المشهد – يمثلان، فانك تظل مقتنعا في لاوعيك انها مراة بسيطة وام متلهفة ومصدقة وانما الرجلان يمثلان عليها دور القاريء والمترجم وليس علينا ..حتى تكاد لاتنتبه الا في نهاية المشهد او الحلقة ومع موسيقى التتر انك كنت في تمثيلية وليس في محلة بغدادية حقيقية وان الجميع ماكانوا الاممثلين ! اعد النظر الى تجسيد الام بلهفتها وبراءتها وحنينها وفرحها كالاطفال ،الام الأمية التي لامناص لها من الاستعانة برجال المحلة الاصلاء .. انظر كيف انها تردد فرحة :”يگول اني مرتاح يگول اني مرتاح.. صدقة لعمرك وليدي” عندما ترجم عبوسي جملة حجي راضي ..(اتتي مرنام) الهندية! ..الى اصلها العربي ..ثم تقول كالمستوعبة متأخرا “..هاااا..”.
اتعرف ماذا يسمى هذا ؟ يسمى فن وموهبة..فهل تعرف الان ماذا يسمى مارايته امس على التلفاز العراقي والعربي ومانراه كل يوم من هذا الجيل ؟ الصلف والتهريج . وهل تعرف ماذا يسمى في احسن الممثلين واكثرهم التزاما فيما نراه اليوم ؟ انه التكلف..وهيهات وشتان بين التكلف والموهبة .وبين التشنج والاسترخاء (كما كانوا يسمون سليم البصري) وهو حجي راضي ، ملك الاسترخاء. وكما يصفه زميله حمود الحارثي وهو صانعه عبوسي ..كما وشتان بين الهدف السامي من امتاع الناس مع اعطائهم دروس في التعاون والتعلم وحب الدراسة والعلم ولو على كبر وبنفس كوميدي محبب ..وتشجيع الحشمة والستر والوقار وبين التهريج والتسويق للرذيلة والسوقية والسطحية ..(عبوسي الصغير ) يقول لعروسته التي لايرضى ان تشاركه السرير في البرد الا ان تاتي له ب(من السما) -حلوى عراقية – من امها دون علمها ..فاعترضت ” لج لاا.. اللي ياخذ بدون اذن ويخلي ببطنه لأن جوعان ..مو حرامي مثل اللي يحط بجيبه ”
مثل هذا يسمى الفن والموهبة والرسالة. والآخر يسمى التكلف والتهريج .
———————-
ملحوظة: انصح المتخصصين والمعاهد الفنية العراقية والمصرية والعربية ان تدرس ضمن مناهجها هذه الشخصيات الفنية المتكاملة التي بمستوى سهام السبتي وأمينة رزق وامثالهما ..لانها كتب فنيه منصهرة في اشخاص.

أحدث المقالات

أحدث المقالات