كان لانتقال الكائن البشري من فضاء الجماعة الطبيعي إلى الفضاء الاجتماعي نقل معه شعائره عبر أسرار إيقاع ناظم كانت الكلمات بالنسبة له مجرد جرس يتبع مسار التحول من الفوضى إلى تجاوزها من خلال طقس أولي ذو معنى ثم حدث التجاوز بانتقال الكلمة من صدى للحدث إلى فعل ينوب عنه من فضاء الطقس إلى باحة المعبد دخلت الكلمة –اللحن – اللغة وفي بعد مقدس و أسراري من الفرد إلى العشيرة ومن العشيرة إلى الملك .
هنالك تحول لغوي إيقاعي شعري مؤسس للتحولات الحضارية و هنالك انتقال من المقدس إلى الرمز و من الديني إلى المديني تحولت اللغة إلى أداة و قوانين و إكراهات بعد أن أنهت تجوالها الغابي اللا مدجن المنفتح الطبيعي تحولت إلى أداة اجتماعية تمارس الضبط و التنظيم مبتعدة عن دلالاتها الأولى الغامضة السرية البدائية من أداة تواصل إلى أداة سيطرة و بالتالي هربت من قمع و تدجين الشخصية التي تعيش بها محاولة الوصول إلى تكيف قهري فاستعانت مرة أخرى بجذرها اللا متعين لتصوغ خطابات مواربة بها الحنين إلى الأصل مقارنة بالحاضر و بها الهروب إلى الأمام مستعينة بالشعر و الإيقاع اللذان أكملا مرحلة في رحم اللغة المولد لينفصلا عنها جزئيا محتفظان بالحبل السري لعلاقتهما الجذرية مع أساسات اللغة في مفارقة و علاقات جديدة للأشياء و الجماعة .
انفصل الإيقاع عن الممارسة ليأخذ قيما خاصة به و انفصلت الكلمة عن ترتيبها و متافيزيقيتها لتأخذ شكلا فنيا مستمدا من الكلمات الممسوسة بالمزاج و التي تعرف عن نفسها استنادا إلى تقاليد لغوية و خبرة حياتية . حينها برز الدافع الى تقسيم تلكم التلاحين المختلفة لأنواع الفنون فقام ” مارتينوس كابيلا” بالإناطة بذلك العبء فقسمها في القرن الخامس الميلادي الى سبع من الفنون السبعة الحرة او الليبرالية وكانت كالتالي: النحو، الجدال والمناظرة، البلاغة، الهندسة، الحساب، الموسيقى وعلم الفلك.
بعدها بقرون طويلة نادى ألماني اسمه “جورج هيغل”، واحد من اعظم رواد النهضة الأوربية ومفكريها.. اخترع لنا تصنيف الفنون الخمسة التي نعرفها في بدايات القرن التاسع عشر عبر عده محاضرات القاها بين عامي 1811 و 1828 كالتالي: فن العمارة، فن النحت، فن الرسم، فن الموسيقى، والشعر .
بعدها قام الإيطالي “ريجيوتو كانودو” بإضافة الفن السادس والسابع عام 1911 كما يلي : فن الرقص و فن السينما ,ولقد لاقى هذا التقسيم الترحيب في أوربا وفرنسا ومعارضه من امريكا.
من حيث المبدأ في العلاقات التبادلية بين الفنون هنالك مجاز في الرابطة المؤسسة بينهما تتباعد و تتقارب و أحيانا لا تلتقي. ووفق هذا المنهاج وزع المؤرخ شبنغلر الفنون كهاجس حضاري متصاعد و رأى أن لها قيمة تصاعدية حسب المرحلة التاريخية و حسب الفن النوعي المهيمن على حضارة ما و علاقته بها للمصريين المعمار و لليونان النحت و للصين التصوير وللعرب الشعر و للغرب الموسيقا
وفق سلمه التفاضلي للنوع و الفنون أن آخر مرحلة تاريخية كان الشعر بها متعلقا مع الموسيقا تبنت الشعر العربي الذي سلم مفاتيح الحضارة و الموسيقا للغرب بعد أن نازعته السيادة لتنفصل عنه في هاجس حضاري مغاير .
وتأسيساً على هذه الرؤية، تتبلور مقولة “دع كلّ الأزهار تتفتّح” وتأخذ أبعادها الفعليّة في عملّية التقييم، وفي عالم النقد، عندما تحين الفرصة للقيام بمثل هذين العملين، بعيداً عن عواطف الانحياز لصالح العمل الأدبي أو ضدّه.
فماذا عن مسألة “الاستعداد” إذن، لنكون في مستوى القدرة على “استيعاب” ما نقرأ على غرار ما نسمع أو نرى؟ من البساطة جداً أن نرمي هذه المسألة جانباً، ومن السهولة أيضاً أن نقف عندها بحثاً وتمحيصا .
إن فلسفة العلم في القرن العشرين اتخذت صفة العلمية لإخضاعها للقضايا والأطروحات للمناهج العلمية الحديثة، وكانت التجربة الفلسفية غير منصاعة هكذا مناهج دون ظهور حاجة حقيقية لإثبات الفاعلية . لذا كان من البديهي اختراع نمط جديد من الفنون لتواكب ذلك المنحنى في الفهم والادراك فكان ولادة الفن الثامن .
فمن التجربة الفنية في الثامن فنا، من ناحية بناءها العلمي تتحدد بعدة ضوابط معدلة علميا لتلائم خصوصية العامل الحيوي الانساني للمتلقي، بوصفه الان وفي هذا الاطار يتعامل مع الفن وفق العامل التفاعلي الذي يميز الفن الثامن، ولان هذا العامل والصفة الجديدة تتطلب مفهوما جديدا للتجربة العلمية فنيا، يكون من الاولى تحديد الركائز التجريبية وفق المفهوم الجديد.
اول نقاط الارتكاز تتعلق بالفنان ، الذي يمثل الذاتية الفنية، للتجربة ، فبكونه متفاعلا بالضرورة ، بالسلب او الايجاب ، مع الذوات الاخرى والمحيط والواقعي الفعلي، عليه يكون اختيار الطرح الفني دون غيره يميل للذاتية بالاختيار في الدرجة الاولى، وعلى الرغم من العوامل الموضوعية المؤثرة في عملية الاختيار الا كون الطرح اختيار الفنان يبرهن على اعلى نسبة تمثل ذاتي ، وهذا وصف وليس تقييم اجمالي للعملية، فليست هي الهدف هنا، انما كون الطرح نسبيا ينتمي لواقع فعلي معاش ذاتيا من قبل الفنان، ولكن تلك المسبة الموضوعية المراد بناءها فنيا لا بد لها من خطوات علمية في ترسيخ الفنية صفة للتجربة الذاتية في الواقع الفعلي ابتداءا ثم في تجربة الفن الثامن.
ان من الواضح هو ان عملية اختيار الطرح الفني لا بد ا تكون مبنية بشكل محكم ، وقد لا نجازف بالقول في ان اولويتها يمكن ان تحدد مسار التجربة ، لا نتائجها ، بشكل واضح ، ويبدوا جليا اهمية الطرح الفني بالنظر الى فنية التجربة ، أي انسانيتها ، لا مختبرية قسرية تشمل التجربة وبالتالي اختيار الطرح ، ولكن اللافت للفكر هو الامكانية الفنية على استيعاب الطروحات الانسانية بشكل اعمق بكثير من التناول العلمي البحت ، وليس هكذا فهم لعملية الاختيار هو اعلاء شان مجال دون اخر، انما هو تميز للفن كتجربة ، بغض النظر عن موضوعية نتائجها، والتي تسعى اليها وفق بناء علمية الفن الثامن.
لو إن الفن الثامن لم يتخذ المناهج العلمية طريقا لذاتية المتلقي كانسان لا عنصر ضمن العملية الفنية ، لما كان له من التمييز عن باقي مجمل الفنون، بوصفه فنا تجريبيا علميا، لا هائما في سماء المثالية التي اتصفت بها الفلسفة قبل القرن العشرين.
التجربة الواقعية التي يقدمها الفن الثامن، تكفل، ذاتية المتلقي، وواقعية الافتراض من نواحي عديدة، أهمها، كون الافتراض يمت للواقع بالصلة بوصفه مشكلة إنسانية مشتركة بين كونها ذاتية وذاتية متمو ضعة، من ناحية عارض المشكلة، الفنان، وأيضا ذلك يحتم واقعية الفنان دون الحد من الخيال الفني ذاته، ولكي تكون العملية التحويلية للرؤى التصورية عن الواقع الفني إلى فن قائم، منطقية، لا بد من اقترانها بواقع افتراضي على أساس مشكلة وعقبة حقيقية، لا يمكن هنا البت في وجودها الواقعي الفعلي، ولكن يمكن القول بواقعية الطرح من ناحية الإمكان الفني، حيث التجربة بحد ذاتها مفتوحة إمام النتائج ولا يمكن تحديد الإطار ألنتائجي مسبقا لو أخذنا بنظر الاعتبار ذاتية المتلقي، مع ألفات الفكر إلى دور اللازم لا الجازم، بحيث لا يعود لنا المطلق الفني كأساس.
يبدو جليا هنا أهمية كون الفنان اقترب من وصف وصفات العالم، حيث الذاتية الفنية بالنسبة إليه أصبحت مقتصرة على الافتراض الواقعي وسبل اتقنه لبناء محيط التجربة بشكل يضمن نجاحها، إما الافتراض في الطرح ذاته فلا بد من كونه موضوعا واقعيا، وكلمة واقعية تشمل حتى الخيارات وأحلام الإنسان، ولا تقتصر على التعاملات اليومية بل تتعدى لروح الإنسان، وكل القضايا التي لم تدرك بعد علميا حتى، ويصح كون ذلك ظاهريا قد يبدو مناقضا لعلمنة الفن، إلا إن هكذا توجه غير مقصود في الفن الثامن، حيث هو فن علمي بحدوده الفنية، لا كونه إعلاما حصريا للعلم ومنجزاته، فعملية إلغاء الإبداع في الطروحات ليست من العلم والياته، ولا يمكن البت في حصولها فنيا، إن ابتغينا، فنا علميا لا ولا حتى علما فنيا، الأمر المهم تداركه قبل الحكم على هذا المزيج المادي المعنوي في محيط الفن الثامن التجريبي هو شرط التزام الحدود التجريبية لضمان علمية فنية لا تسمح بتنافر عناصر العملية إلا بأقل النسب ، فلا مطلق!
المصادر :
-(http://www.cafleurebon.com/interview-with-pierre-guillame-huitiem-art-perfumes-phyto-perfumery-giveaway/)
– (واقعية التجربة الافتراضية في الفن /سرمد سليم)
-(الفن الثامن ـــ د. اسكندر لوقا)