الحديث عن الفنان الآشوري هانيبال ألخاص، الذي ولد في العام 1930 بمدينة كرمنشاه ( 525 كيلومتر عن العاصمة طهران والواقعة في القسم الغربي من ايران)، يطول ويتشعب. فهو فنان ونحات وشاعر ومترجم ولغوي. ومن عائلة آشورية معروفة، فقد كان والده (رابي اداي ألخاص) كاتباً وشاعراً معروفاً، عمل في سلك الجمارك في ايران، وترجم الملحمة الأغريقية الأوديسة (حوار شعري) وقصيدة جلجامش الملحمية من اللغة الأكدية الى اللغة الآشورية، وكان يتقن عدة لغات: الفرنسية والروسية والعربية والأنكليزية والفارسية إضافة الى لغته الأم الآشورية، وكان يتعلم اللغة العبرية عندما وافته المنية في عام 1959.
أما والدته، فقد كانت ذات شخصية اجتماعية، مغتبطة وتتسم بالمرح وتغلب على وجهها الأبتسامة والحبور ودائمة الفرح، وحكواتية رائعة تقص على ابنها الصغير هانيبال الحكايات الآشورية والأساطير الخيالية ومآثر الآشوريين والمذابح التي تعرضوا لها في سيفو وسيميل.. وتقرأ له القصائد في ليالي الشتاء الباردة.
في مثل هذه الأجواء نشأ وترعرع الفنان هانيبال ألخاص ودرس وتتلمذ على ايدي فنانين ومثقفين آشوريين كبار، ثم سافر في العام 1951 الى الولايات المتحدة الأمريكية ودرس الفلسفة لمدة ثلاث سنوات في جامعة لويولا بشيكاغو إلينوي، ثم في عام 1953 التحق بمعهد الفنون بشيكاغو لمدة ستة اعوام وحصل في عام 1958 على شهادة البكالوريوس والماجستير في الفنون الجميلة.
بعد وفاة والده في العام 1959 عاد هانيبال ألخاص إلى إيران وبدأ بتدريس الرسم وتاريخ الفن في مدرسة طهران للفنون الجميلة لمدة أربع سنوات. وخلال هذا الوقت أسس معرضاً تشكيلياً أسماه جلجامش، وكان وقتها أول معرض فني حديث في إيران، حاول من خلاله استقطاب الشبيبة وتشجيعها وزجها في حقول الفن، لذلك خصصه للفنانات والفنانين الشباب الطموحين لتقديم نتاجاتهم وعروضهم الفنية.
في عام 1963 عاد إلى الولايات المتحدة وقام بالتدريس في كلية مونتيسيللو في إلينوي، ثم أصبح رئيساً لقسم الفنون. وفي عام 1969 عاد هانيبال مرة أخرى إلى إيران ليقضي 11 عامًا في مجال التدريس بجامعة طهران، وعمل كذلك استاذاً في جامعة آزاد الإسلامية.
التقيته للمرة الأولى في طهران نهاية العام 1985 في منزله الواقع في وسط العاصمة. كان منزله يعج، على مدار الساعة، بالأصدقاء والضيوف والفنانين والمثقفين والشعراء واصحاب دور النشر من كل فج عميق، وتغطي جدران منزله لوحات وتخطيطات فنية باحجام مختلفة ومنحوتات تتوزع بدون انتظام في ارجائه، وتجد بقايا صحف ومجلات قديمه مرمية هنا وهناك. وقد خصص صالة كبيرة من المنزل ورشة ينحت ويرسم فيها لوحاته وتخطيطاته، ويستخدمها كذلك مستودعاً لمواد وادوات الرسم والنحت، تغص بروائح الجلد المدبوغ والخشب المحروق والعرق المصنوع محلياً.
كان جليساً جميلاً ولطيف المعشر بعيد عن التكلف او التعقيد، ومنذ تلك الأيام اصبحنا اصدقاء ازوره باستمرار واحضر الأمسيات التي يلقي فيها قصائده او حكاياته او تراجم لقصائد شعراء معروفين قام هو بترجمتها، او عندما يتحدث عن الفن واهميته. وتوطدت صداقتنا،حتى انه كان احياناً يقوم بمهمة الترجمة عندما كنتُ التقي في طهران بمثقفين ايرانيين معروفين لا يتحدثون العربية وانا بدوري كنت لا اتحدث الفارسية آنذاك. كما انني دعوته الى حفل الخطوبة العائلي الذي اقيم بطهران في 23 آب (اغسطس) عام 1986، فحضر هو ومعه عدداً من المثقفين والشعراء والفنانين الإيرانيين.
في احدى المرات سألته عن كثرة زائريه والزحام غير العادي في منزله، وهل هو يجد متسعاً من الوقت للراحة؟ ضحك ثم قال: هذا السؤال طرحه عليّ اصدقاء آخرين، فكانت اجابتي لهم، ان لي الكثير من الأصدقاء والطلاب الذين قمتُ بتدريسهم طيلة السنوات الماضية، سواء في طهران أو في مختلف ارجاء ايران، فهم يزورونني بين فترة واخرى، خاصة في فترة إقامة المعارض الفنية. وزاد: في احدى الليالي، وكانت الساعة تشير الى الثالثة صباحاً بعد منتصف الليل، طرق احدهم باب المنزل، فنهضت متثائباً لأرى من الطارق، فوجدته شاباً في منتصف الثلاثين من عمره. سألته: من انت. قال “ان اسمي (…) وقادم من مدينة عبادان وقد ارسلني اليك صديقك (…) وقال لي: اذهب الى منزل هانيبال فلماذا تحجز لك غرفة في الفندق وتدفع اجوراً، خاصة وانك ستصل الى طهران في وقت مبكر من الصباح، فلا تشعر بالحرج من ذلك فبيته مفتوح لنا دائماً”.
ثم اردف هانيبال: ان هذا “الصديق” الذي تحدث عنه الزائر القادم من عبادان (تبعد اكثر من 950 كيلومتراً عن طهران) لم اكن اعرفه ولا اتذكر اسمه، ربما زارني يوماً او حضر احدى معارضي الفنية او كان طالباً عندي. رغم ذلك قمتُ بتوفير سرير له، فقضى ليلته وغادر في الصباح.
كان هانيبال ألخاص منشرح النفس وفي غاية التواضع والمرح ودائم التنكيت ولا تفارق الأبتسامة محياه، محباً للحياة ولإصدقائه الكُثر، جاهزاً لمساعدة الآخرين والتخفيف عن اعباء الكثيرين مادياً ومعنوياً. أما عن فنه، فقد اتسمت اللوحات الجدارية المعروفة التي رسمها على جدران كبيرة في شوارع العاصمة طهران، بطابع النحت الناخر او البارز، ابرز فيها الزقورات، مثل ما هي في بلاد ما بين النهرين، حيث المعابد المدرّجة في العراق وسوريا ثم ايران، ومن اشهرها زقورة أور في الناصرية بالعراق. كما عبّر في لوحاته عن موضوعة الأنتظار: جموع غفيرة تنتظر الغد المشرق.
اقام الفنان المعروف هانيبال ألخاص و شارك في الكثير من المعارض الفنية في ايران والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا، كما استضافته في اواسط التسعينات، جمعية عشتار الثقافية في تورنتو بكندا،التي كنتُ اترأسها واقامت له معرضاً فنياً كبيراً وندوة حاشدة في مقر (المجتمع الآشوري) بمسيساغا، تحدث فيها عن ضرورة الفن ومدارسه واتجاهاته الفنية وانشطته المختلفة، كان لي شرف إدارتها وتقديم الفنان للحاضرين. بعدها دعوته على مأدبة عشاء في منزلنا.
في اغلب اعماله وتخطيطاته حاول الفنان ان يهتم بابراز وجوه الناس وركز على تعابيرها وتقاسيمها، محاولاً ان تعبر حالتهم عن مشاعره في تلك اللحظة وما يجول في ذهنه، ساعياً الى التعبير عنها بريشته واصباغه واقلامه. كما حاول توظيف الكلاسيك في اعماله المعاصرة واستخدم الكوبيزم، أو التكعيبية، في سباكة لوحاته وخاصة في اعطاءها بعداً ثالثاً. ولم يفته ان تكون اعماله بسيطة واضحة للمتلقي ومفهومة للمشاهد.
حاول الفنان هانيبال التأثير على الناس وخاصة الشبيبة وتعليمهم من خلال اعماله الفنية وتخطيطاته وزجهم، بطريقة او اخرى، لإلتزام الفن واتخاذه طريقاً في الحياة، مستخدماً لذلك وسائل وابعاداً ثلاثة:
1- استخدام الطريقة المكسيكية في الرسم على الجدران.
2- استخدام طريقة الليتوغراف، أي الرسم على المواد الخام الرخيصة الثمن، والتي تكون في متناول الناس ويمكنهم الحصول عليها باسعار زهيدة.
3- من خلال التدريس وتهيئة الأجيال، خاصة الشبيبة، لفهم ماهية الفن وفلسفته ومدارسه والأنخراط والإنصهار فيه.
كما اهتم الفنان هانيبال بعالم الاطفال، فكتب لهم اشعاراً باللغة الأشورية و ترجم لهم قصائد ونظّم لهم اغاني. ونشر خمسة كتب في علم الفن تم الأخذ بها واعتمادها مناهجاً للتدريس في الجامعات. وترجم الحكاية الشعرية للشاعر الروسي المعروف بوشكين (الصياد والسمكة الذهبية) الى اللغة الآشورية، وترجم الى اللغة الفارسية قصة جلجامش وهي للأطفال. وكتب حكاية (الصديق الأبيض، الصديق الأسود) باللغة الأشورية. وترجم الى اللغة الفارسية قصائد للشاعر الأمريكي كارل ساندبرغ وكتابا عن الفنان المكسيكي سيكيورس ماريو. وترجم رواية (داغستان بلدي) للكاتب الداغستاني المعروف رسول حمزاتوف. وترجم الى الآشورية ديوانين للشاعر الروسي بوشكين ورواية لتولستوي و 30 قطعة من غزليات حافظ الشيرازي ، كما ترجم اربع حكايات من الأدب الكردي.
صدرت للفنان هانيبال ألخاص كتب عديدة في القصة والشعر، وله اكثر من عشرة افلام تجريبية كاريكاتورية قصيرة (10 دقائق) . ومن ابرز اعماله، لوحة كبيرة عن تاريخ الآشوريين بقياس (3 في 5) أمتار مؤلفة من 15 قطعة.
في عام 2008 زرته بمعية زوجتي، في منزله المتواضع المزيّن بلوحاته وتخطيطاته، بمدينة تورللك بولاية كاليفورنيا الأمريكية (167 كيلومتر عن سان هوزيه). ورغم انه كان يعاني من امراض عدة إضافة الى مرض السرطان الخبيث الذي لازمه منذ سنوات ويتناول انواعاً من الأدوية والعقارات الطبية، وقد اتسعت عيناه الضيقتان وازدادتا غوراً وتحتهما زرقة ظاهرة وفقد الكثير من وزنه وشحب وجهه واعتراه النحول وبحّ صوته، لكن مزاحه وضحكه ونكاته كانت هي الطاغية على الساعات القليلة التي قضيناها معه وبرفقته زوجته آنّا.
في 14 أيلول (سبتمبر) 2010 توفي الفنان والشاعر الكبير هانيبال ألخاص عن عمر ناهز الثمانين عاماً، تاركاً وراءه ارثاً كبيراً وإسماً لامعاً في فضاء الفن والثقافة والأدب الآشوري والإيراني.