في مواسم الانتخابات الأمريكية يصبح الحزبُ الحاكم والموشك على الرحيل في أمس الحاجة إلى أوراق انتخابية قوية يوظفها في المعركة لهزيمة خصمه مرشح الحزب الآخر، أو على الأقل لإبطال بعض الأوراق المؤذية التي قد يستخدمها ضده.
والمفاجأة التي حققها ترامب بحصوله على العدد المطلوب من المندوبين لضمان ترشيحه عن الحزب الجمهوري أمرٌ لابد أن يُقلق الرئيس الأمريكي والديمقراطيين، دون شك. خصوصا وأن أهم عوامل شعبية ترامب هي سخونة هجماته العنيفة على أخطاء وعثرات إدارة أوباما في ثماني سنين، ومنها، بل أبرزُها، نعته الرئيس الأمريكي بالجبن حين تخلى عن العراق لإيران، حفاظا على اتفاقه النووي الذي يعارضه ترامب ويهدد بإلغائه، وكذلك حين صمت طويلا وكثيرا عن سياسات الأسد، وعن داعش، وتخلى عن سوريا للرئيس الروسي بوتين، الأمر الذي أفقد أمريكا ثقة حلفائها في المنطقة.
ولأن ترامب والشيوخ والنواب الجمهوريين يتهيأون لإنهاك هيلري كلنتون ببريدها الإلكتروني، إضافة إلى تاريخ زوجها في التحرش الجنسي، فأن الديمقراطيين، مدفوعين بخوف حقيقي من احتمال الفشل في الانتخابات المقبلة، يلجأون لعملية تحرير الفلوجة، وإحاطتها بالضجيج الإعلامي الواسع، ومنحها وزنا أكبر من وزنها الحقيقي بكثير.
وللمواطن العراقي والعربي، وربما للناخب الأمريكي أيضا، الحق في أن يتساءل، لماذا لم يكن للرئيس الأمريكي أوباما، ولا لوزير دفاعه وخارجيته ورئيس مخابراته، ولا لكل أفراد طاقمه للأمن القومي وسفرائه، وقتٌ للتفكير بنجدة العراقيين والسوريين طيلة الأعوام الماضية، معتمدين سياسةَ (فخّار يكسِّر بعضه)، لأنها الأنسب له ولهم، والأكثرُ مواءمةً لحالة الاسترخاء الجسدي والعقلي والنفسي التي ميزت عهده الطويل?.
ففي العراق وحده، وفي ثماني سنوات، ساهم أوباما في تعميق هيمنة أحزاب الإسلام السياسي الفاشلة التي مزقت المجتمع العراقي، وهيأت البيئة التي ولدت فيها داعش ونمَت وتمددت وتمكنت من احتلال ثلث العراق، بالإضافة إلى عدد كبير من المجاميع الإرهابية والمليشيات الأخرى. ويكفي دعمه غير المحدود لنوري المالكي، بالتفاهم الكامل مع إيران، رغم علمه بطائفيته وأحقاده وارتباطه الكلي بسياسة نظام إيران القائمة على تثبيت احتلاله العراق بزرع
الفتن والشقاق والتناحر والتقاتل بين مكوناته المتعددة، وهو ما حرص المالكي على تنفيذه، كما هو مطلوب منه، وزيادة.
إن الرئيس الأمريكي لم يكن يسمع، ولا يقرأ، ولا يرى تدخلات النظام الإيراني ومليشياته العراقية واللبنانية والسورية في دول المنطقة، رغم انكشاف دعمه القوي والواسع للجماعات الإرهابية الشيعية والسنية، على حد سواء.
ولم يفعل شيئا وهو يرى مسلحي داعش يتكاثرون، ويتمددون، ويتجبرون، تحت خِيم الاعتصام في المحافظات السنية، مستغلين جرائم حكومة نوري المالكي وحزب الدعوة والمليشيات. وكان في قدرته أن يمنع المالكي من مهاجمة خيم الاعتصام والتنكيل بآلاف المنتفضين، بذريعة محاربة الإرهاب.
وكان في قدرته أيضا، في الوقت نفسه، أن يمنع حلفاءه السياسيين السنة من المتاجرة بآلام الطائفة السنية، واستغلال المظالم التي خصها بها نوري المالكي، وجرها إلى الاصطدام الدموي مع السلطة. وكان في إمكانه، أيضا، أن يحول دون تسلل الداعشيين إلى صفوف المعتصمين لفرض هيمنتهم على حركة الاحتجاج، ثم احتلال الرمادي والفلوجة بعد ذلك.
ولم يفعل شيئا حين اعتقل نوري المالكي، بملفات ملفقة، مئاتٍ من خصومه، ومنهم وفي مقدمتهم شركاؤه في المحاصصة الذين يسميهم العراقيون (سنة المالكي).
ولم يفعل شيئا حين تأكد من أن نوري المالكي وقاسم سليماني يتآمران لتسهيل مهمة داعش في احتلال محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى، وهي المحافظات السنية المعارضة لهيمنة إيران وحلفائها العراقيين.
فليس من المعقول أن يكون الرئيس الأمريكي يجهل أسماء القيادات العليا التي أمرت بسحب جيوش الحكومة الجرارة من الموصل، وتسليمها لداعش دون قتال.
ولم يفعل شيئا حين اجتاحت مليشات قاسم سليماني وهادي العامري ونوري المالكي المدن والقرى في محافظتي صلاح الدين وديالى، بعد تحريرها من داعش، وقامت بنهب منازلها، ثم هدمها وحرقها، والتنكيل بأهلها، بحجة تطهيرها من الإرهابيين الدواعش.
ولم يفعل شيئا للفلوجة، ذاتها، وهي التي مكثت سنوات طويلة تتعرض لأبشع أنواع الانتقام والقتل من قبل داعش، ولأقسى أنواع الحصار والتجويع من قبل السلطة ومليشياتها.
واليوم فقط تذكر الرئيس الأمريكي الفلوجة، وآمن بضرورة طرد داعش منها، لضمان أمن مواطنيها، وأمن العراق والمنطقة.
أما في سوريا، فقد كان أوباما أكثر (تطنيشا) عما كان في العراق. فقد ظل يتجاهل ما يفعله بشار الأسد وقاسم سليماني وحسن نصر الله ونوري المالكي وداعش، على مدى خمس سنوات من قتل وحرق وتخريب وتهجير، مانعا تزويد المقاتلين السوريين الوطنيين المعتدلين بالسلاح، وهو يرى ما تغدقه إيران وروسيا على المليشيات وعلى شبيحة الأسد من أحدث الاسلحة والعتاد.
وحتى حين أنذر بشار الأسد، وهدده باعتبار استخدام الأسلحة الكيماوية خطا أحمر، لم يفعل شيئا حين تجاوز بشار ذلك الخط، سوى التنديد والاحتجاج.
وفي حلب ودرعا والزبداني والقلمون وغيرها ظلت مليشيات النظام الإيراني والنظام السوري ترتكب بحق المدنيين جميع أنواع الممارسات التي اعتبرتها منظاتٌ أممية عديدة جرائمَ حرب، ولم يفعل الرئيس الأمريكي شيئا لمعاقبة المجرمين.
ثم أخيرا وجد الرئيس الأمريكي في تدخل الجيش الروسي المباشر في سوريا، بحجة محاربة الإرهاب، وسادةً مريحة يتكيء عليها، رافضا أي نوع من أنواع مساعدة الشعب السوري في منع شبيحة بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس من مواصلة حملات القتل والحرق والتخريب والتهجير، تاركا ما لقيصر لقيصر، وما لداعش لداعش، وما للولي الفقيه للولي الفقيه.
والآن، وبعد الصعود المثير لترامب، وتحوله إلى خطر حقيقي يقلق الديمقراطيين، ويهدد بانتزاع البيت الأبيض منهم، تذكر الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه وخارجيته ورئيس مخابراته، وأفراد طاقمه للأمن القومي وسفراؤه، مدينة الرقة، وأهميتها للأمن القومي الأمريكي، فقرر، وبالاعتماد على مليشات كردية انفصالية، تحريرها، وطرد داعش منها.
وكما ترك العراق تصول فيه وتجول دواعش الإسلام السياسي، واكتفى بتحرير الفلوجة فقط، فهو في سوريا لا يريد أن يمس بشار الأسد وإرهاب حلفائه الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين والروس، ولا يرى فيهم، جميعا، خطرا على الأمن القومي الأمريكي، ولا على أمن المنطقة. فهل يجبره ترامب على أن يفعل في شهور، ما لم يفعله في العراق وسوريا في سنين؟