23 ديسمبر، 2024 4:37 ص

الفلسفة وجرأة الأسئلة

الفلسفة وجرأة الأسئلة

اذا كانت الدهشة هي التي تميز الفلسفة عن غيرها من العلوم والفنون والمعارف، فهذا يعني أنها السؤال وليس الصمت والانبهار والجمود، وهذا يعني أن الانسان حر في طرح ما يشاء من الأسئلة والأفكار دون قيد أو شرط، مهما كانت هذه الأسئلة في قوتها وخطرها، فهي تعد استفهاماً لشيء مجهول أو مغلق أو محير في حياة الانسان، وهذا يعني أنه لا توجد خطوط حمراء للسائل أو سلطة أو وصاية لجهة ما على من يسأل من بني البشر، والا بطلت عملية التفلسف والفلسفة برمتها، وهذا ما جعل الفلسفة تمر بمآسي وكوارث ومحن عبر فترات متفرقة من تاريخ الفكر البشري، لأن عقبات كبرى تقف في طريق تحقيق حرية الفكر والانسان وبناء كينونته المفقودة.
أضحكتني كثيراً وأدهشتني زميلة لي في العمل في قسم الفلسفة، حين قالت لي : لاحظت وأنا أضع نفايات المنزل في الحاوية أن هناك مجموعة من الكائنات أو الديدان الصغيرة في كيس النفايات، فتسألت في نفسي من أين أتت هذه الديدان وكيفية تكونها ومن خلقها ومجموعة أخرى من الأسئلة دارت في رأسي ولكنني بعدها تعوذت من الشيطان الرجيم واستغفرت الله خوفاً على نفسي وديني، وخفت أن تكون هذه الأسئلة هي وساوس شيطان أو تشكيك في الخالق فأغلقت باب أسئلتي وعدت من حيث أتيت منتصرة على شيطاني الخناس. فضحكت من قولها هذا وقلت في نفسي سبحان الله فأنا لست بأفضل حال من زميلتي الدكتورة وما حصل لها حصل لي أيضاً ولملايين البشر بمخلف الألوان على هذه الأرض وعبر الأزمنة واختلاف الأمكنة، ممن يسير وراء هذا التفكير المنغلق ويقمع أسئلته وفكره ويقلد غيره في عاداته وتقاليده وافكاره وثقافته، ولكن اذا كنا نحن أهل الفلسفة نقوم بذلك الموقف ونعطل عقولنا ونوقفها عن التفكير والسؤال فما هو دورنا أذن وما هي وظيفتنا الحقيقية وما هو فرقنا كشريحة مثقفة ومتعلمة وأكاديمية عن غيرنا، هل هي تداول وقراءة الأفكار والفلسفات والمناهج ونقلها من جيل الى جيل أم أن هناك موقف وتجربة نقوم بها لما نراه في حياتنا ونحاول أن نجد الحلول لها، ونزيد حياتنا رقياً وتقدماً ونجاحاً من جراء تلك الأسئلة والتفكير؟ وتذكرت بعدئذٍ العالم الكبير تشارلز دارون ونظريته في التطور، ولويس باستور ونظريته في البكتريا، وعشرات العلماء والفلاسفة، وقلت في نفسي كان ينبغي أيضاً على دارون والعلماء والفلاسفة، أن يستعيذوا من شيطان أسئلتهم وأن يخرسوا كل عقولهم واستفهاماتهم العلمية، كي يريحونا ويريحوا أنفسهم من وساوس الأسئلة وضجيج العلوم والمكتشفات والافكار، وأن يقتنعوا بما تعرفوا عليه من أجوبة غير مقنعة مما تعلموه في مدارس الكنيسة وتراتيل الآباء والقديسين، وبالتالي سيعيش الجميع مطمئنين ومرتاحين أبد الدهر دون ضجيج الأفكار، ولكن دارون وأمثاله من العلماء والفلاسفة، أبوا ذلك وانتصروا على شيطانهم بجرأة أسئلته ودوام البحث والتنقيب، وهم يعلمون أنهم سيلاقون مصيراً صعباً من لدن رجال الدين والكهنة والمجتمع اللاهوتي الذي يقمع العلم والافكار والاسئلة المعرفية والفلسفية، ولم يسلموا بالأمر كما فعل بطليموس والعشرات من أمثاله، حين كانت أفكاره في الطبيعة والفلك مساوقة لأفكار الكنيسة ورجال الدين. وعندها تساءلت في داخلي : ماذا لو أن دارون وكوبرنيكوس وغاليلو وفرانسيس بيكون والعشرات من الفلاسفة والعلماء وغيرهم الكثير لو صمتوا وقمعوا أسئلتهم وأفكارهم واستسلموا لسلطة الكهنة ورجال الدين والسلطة السياسية وعامة الناس ومحاكم التفتيش؟ ماذا كان يجني العالم من وراء أمتناع اسئلتهم وصمت فكرهم وخضوعهم أمام العامة؟ بالتأكيد كنا سنخسر الكثير الكثير مما قدموه من العلوم والأفكار والنظريات. البشرية اليوم تقدمت بفضل الكثير من أفكارهم وعلومهم ونظرياتهم العلمية، والفتوحات الكبرى للتكنلوجيا والمعلوماتية والثورات الطبية والعلمية والمعرفية انما تطورت بفضل ما قدموه وطرحوه من أفكار وأسئلة، والعالم الغربي يقفز قفزات علمية هائلة مرجعه الى تلك العقول العظيمة التي تمردت على كل السلطات وحطمت كل القيود، لتخرج الناس من ظلمات الجهل الى نور العلم والمعرفة. أننا للأسف في واقعنا العربي نعيش تحت جهل مظلم وأمية خرافية تأبى أن تخرج من كهوفها وتمارس حريتها الفكرية والشخصية، لأنها مخدرة تماماً وتخشى كل سؤال يعنُ لها أو يدور في رأسها، مستعيذين بالله من تلك الأسئلة وشيطانها، تحسباً من وقوعنا في الخطأ أو الخطيئة، وتلك كارثة كبرى، وهمجية عظمى، أن نقبع في جهلنا ونحسب كل سؤال أو تفكير أنما هو مس من الشيطان، ونستغفر الله كي لا نخرج على طاعته وخط شريعته، هكذا قال لنا كهنتنا ورجال ديننا، وهكذا نحن عرفنا ذلك من خلال تراثنا وتاريخنا حين درسنا الفلسفة والتاريخ والثقافة. في واقعنا العربي والاسلامي أن (من تمنطق تزندق) و (الفلسفة عدوة الدين) وهي من وساوس الشيطان، وصدرت فتاوى الفقهاء تدين الفلسفة ومن يشتغل بها، لأنها خروج على الدين أو الحاكم أو رجال الدين والسياسة، أو خروج على ما تعارف عليه القوم من معارف وأفكار، في الحياة والوجود والمعرفة والتاريخ والطبيعة، لكن حقيقة الأمر أن نور الفلسفة يبدد ظلمة الجهل والتخلف ويطيح بالأفكار الفاسدة ذات النسق الثابت والمطبوخة سلفاً في غرف أيديولوجية مغلقة. ولم تشفع للفلسفة كل مواد التجميل والافكار العلمية والنظريات الفلسفية والمعرفية التي قدمها رجال علم وفكر وفقه دخلوا الى الفلسفة، في المشرق العربي ومغربه، حين حاولوا التقريب بين الفلسفة والدين واقامة العلاقة الوطيدة بينهما، كمن يقيم علاقة بين عدوين، أو يجمع (رأسين بالحلال)، لاستمالة الجماهير ولكسب ود العامة ورجال الدين والسياسة، وحين قالوا بالتوفيق بين الفلسفة والدين، وأن (الفلسفة هي الأخت الرضيعة للشريعة) حسب أبن رشد، كل هذه المحاولات لم تنفع ولم تشفع للفلسفة والفلاسفة عبر التاريخ، لأن خشية العامة والجماهير كبيرة من جرأة الأسئلة وخطر التفكير، هذا ما غرزه فقهاء السلطة ووعاظ السلاطين وشرطة المعرفة ومحاكم التفتيش، في عقول الناس، وأن علينا أن نتمسك بما جاء به ديننا وأن نعبد الله حتى يأتينا اليقين، دون ضجيج الأسئلة ونيرانها الملتهبة، مغلقين باب التفكر الذي قال عنه نبينا (ص) هو خير من عبادة سبعين سنة، والسير وراء متاهات الكهنة وسدنة الجهل ممن يروج لهذه الأفكار والخرافات ليعيش الناس في ظلام دامس وأمية أبدية لا تعرف النور أبداً، فنحن أذن كائنات ضعيفة ومخلوقات تافهة لا قيمة لها ما دمنا لا نجرأ على الأسئلة ونخشى ذلك لنسير في خطوط مستقيمة مرسومة من قبل جهات سلطوية مستبدة تخاف على مصلحتها وسلطتها من الانقراض، من كل مفكر أو فيلسوف أو مثقف أو ثائر أو ناقد يريد الاصلاح والثورة والتغيير والاطاحة بتلك الدكتاتوريات المعرفية أو الأيديولوجية التي حكمت العالم، والتي نجحت في اللعب بعقول الجماهير عبر التاريخ لتسيدها على الموقف والابقاء على جهل الملايين والتعويل على ذلك في ادارة الناس والمجتمعات، وكسب ود نخب وجماعات ثقافية وأكاديمية وشعبية الى جانبها، للسير في ظل ركابها والتهريج بأفكار تنسجم وأيديولوجيا السلطتين الدينية والسياسية، وهذا ما نشهده في مجتمعاتنا البشرية المتلونة التي تصفق في كل وقت لحضرة الزعيم وأمير المؤمنين ما دام ذلك يطيل في بقائهم ويسعدهم ويسرهم، أما نحن فلنذهب الى الجحيم.