” لا يوجد جهل مطلق لا يقدر العقل الفلسفي أن يتغلب عليه”
الفلسفة تجربة ذاتية تتأثر بالبيئة الثقافية والهوية الحضارية للفيلسوف الذي يبدعها وهي كذلك شأن خصوصي بامتياز من جهة المصدر والمنبت والمولد والمنطلق والتكوين والانبثاق ولكنها حق كوني وقيمة مطلقة وعملة عالمية ومطلب أممي ومقصد نبيل لكل العقول ومنارة يهتدي بها كل كائن.
تعاني الفلسفة اليوم بشكل لافت من التضييق وتتعرض للتبخيس سواء في الأنظمة التعليمية والمؤسسات التربوية أو في الأطر الثقافية والبرامج الإعلامية ويلاقي المشتغلين بها الكثير من الازدراء والتهميش.
على الرغم من الفوائد الكبيرة التي تقدمها الفلسفة للناس والأغراض الإنسانية والقيم الراقية التي تستهدفها وتناضل من أجل سنِّها على مستوى حقوق الأفراد وحرياتهم ومن جهة عصرية المؤسسات ومدنية الحياة.
رأس الأمر في المشكلة الطارئة في اللحظة الراهنة هي تعارض التفكير الفلسفي مع التمذهب الديني من جهة وانتصار الفلسفة للروح العلمية والمنظومة الأنوارية في مقابل تعميم العولمة لجهل عالم عبر وسائل الاتصال الحديثة واستخدام الوسائط التقنية قصد تعويض العقل التواصلي بالعقل الأداتي من جهة أخرى.
من المعلوم أن الهدف الأصلي من ابتكار الفلسفة هي الانتصار لأنوار المعرفة العلمية ومحاربة الجهل وذلك بالتعويل على ملكة العقل والحوار من خلال اللغة العقلانية وتحكيم المنطق والعودة إلى الواقع ضد الماوراء والتركيز على العمل من اجل السيطرة على الطبيعة ومراكمة الثروة وإنتاج المصلحة البشرية.
يمكن التمييز بين نوعين من الجهل يمثلان خطرا حقيقيا يهدد تماسك الحياة الاجتماعية واستقرار السلم الأهلي وهما الجهل المبتذل والمعمم الذي دفعته الدعاية والإشهار والعولمة إلى الانتشار والهيمنة على مختلف جوانب الوجود الاجتماعي وهو جهل يجهل نفسه وغافل عن مخاطره وعن سلبياته وأمراضه والنوع الثاني وهو الأشد ضراوة لأنه يختلط بالمعارف المتداولة ويدعي التحضر والتمدن والفكرية ويزعم بلوغ المعاصرة والحداثة والريادة والتقدم ولكنه مجرد شكل جديد من الجهل المتعالم والمؤدلج.
والحق أن معركة الفلسفة مع النمط الأول من الجهل هي تاريخية وبدئية وتتكرر بشكل دائم عبر التاريخ وحققت في سبيل ذلك الكثير من الانتصارات والقطائع وتمكنت من تحرير الذهنيات من الخرافة والدجل وأرست معالم الوعي والبصيرة وأحرزت الاستفاقة والانتباه إلى الواقع وثمنت ميدان الحياة وأهمية الدنيا.
في المقابل تبدو حربها على الجهل العارف من حيث هو شكل جديد من التدجيل الفكري مصيرية وحيوية وذلك للطابع المراوغ الذي يتصف به هذا النوع من الجهل أولا وللعسر الشديد الذي تجده في التعاطي مع هذه الظاهرة المستفحلة في الحياة اليومية والتي تجعل الأنفس غير مكترثة والأجساد راضية مقتنعة ثانيا.
إن تبعات هيمنة الجهل المبتذل على وجود الإنسان كارثية والعواقب المترتبة عن الجهل العارف وخيمة ولذلك يجدر بالعقل الفلسفي التحرك السريع وممارسة الشك والنقد والتفكيك والهدم والخلخلة والتحطيم وإزالة الأوهام وكنس الأصنام بغية التخلص من هذه الأمراض والآفات التي تفتك بالحضارة والتمدن.
فمتى تتمكم الفلسفة عندنا من تحويل الجهل المبتذل البسيط والجهل العارف المركب من عائق أمام الأنوار المعرفية إلى محرض على البحث والإقلاع وتجعل منه وضعية تجريبية للاختراع ومحركا للاكتشاف؟