22 ديسمبر، 2024 10:04 م

الفلسفة التطبيقية نقد الحياة اليومية وتفكيك الأنساق المجردة

الفلسفة التطبيقية نقد الحياة اليومية وتفكيك الأنساق المجردة

استهلال:

” تُتِيحُ الفلسفة التطبيقية إعادة وضع الفكر على ذمة العمل، لا أكثر ولا أقل”[1]

لو عملنا على استعادة الذكريات الفردية والتمثلات الجماعية للمعارف الفلسفية فقط فإننا نصطدم بالعديد من المحاذير والموانع والصعوبات التي تعيق إمكانية التواصل مع المشتغلين بها وتقلل من فرص التفاعل الايجابي مع المقدم والمعروض من المواد المكتوبة والمقروءة من المسجل والمدون والمنطوق الحي منها.

لقد بدت الفلسفة في مناهج التدريس ثقيلة ومليئة بالمفاهيم الدقيقة وتغلب عليها النظريات المجردة والأنساق الفكرية المتعالية وبعيدة كل البعد عن عالم التجربة وواقع الحياة وينقصها التطبيق العملي وفعل الممارسة. كما ظهر شعور لدى الرأي العام بغرابة التفكير الفلسفي عن المناخ الثقافي السائد والتصاق النزعة الذاتية بالشخصيات الفلسفية وضخامة البرامج وكثرة المراجعات التي جدّت وتعدد الانعطافات في تاريخ الفلسفة.

لقد تحولت الفلسفة إلى خطاب مجرد وسقطت في النية السيئة وتكلست في أنساق عقيمة وشبكات لغوية منفرة بسبب الإفراط في الأبعاد الشكلية والتقيد بالجوانب التقنية على حساب المضامين والتجارب الحية ولا يدري المشتغلون بالنظر على أن وراء البداهة والتطابق والوضوح والتجربة الحاسمة والمنهج الدقيق يوجد الشك والالتباس والغموض والحس المشترك وانفعالات الفرح والمتعة والتجارب الوجودية الحية.

يبدو أن مادة الفلسفة لا تجذب الطلاب إلا إذا درست بغير الطرق المعتادة ولا يبهر أستاذ فلسفة الجمهور إلا حينما يتم التطرق إلى السير الذاتية للفلاسفة وما فيه من عجيب ومفارق ويمكن التحدث عن الحياة اليومية وتستدعى أمثلة عن شخصيات فكرية وتذكر محطات نضالية حدثت في التاريخ الحي للشعوب.

لا يستمد أستاذ الفلسفة إعجاب المحيطين بالتقيد بالبرامج الرسمية وإتباع الحلقات المسطرة للدراسات العليا وإنما بالانصراف عنها وابتداع تأملات جذابة تتجاوز الأطر المدرسانية وتختلف عن الطرق المستهلكة للفكر وإنتاج نصوص معقدة تتضمن نظريات ملهمة ورؤى مغايرة للعالم والانخراط في ممارسة جذرية.

يتم التركيز عند قراءة النصوص الفلسفية على مضمون الحوارات بين الشخصيات وعلى الأشكال التي تطرح بها الأسئلة وما تثيره في المتلقي من علامات الدهشة والاستغراب وما تحدثه في الأقوال من تفكيك وفي المقابل يتم إهمال النقاشات النظرية والاقتدارات المنهجية على تحديد المفاهيم وضبط المصطلحات وينتظر المهتمون من الفلسفة الراهنة أن تمنحهم دروسا للحياة وتضفي على وجودهم معنى وقيمة وأن تقدم لهم نصائح من أجل الوجود الأحسن ولكي يبلغوا درجات من الانسجام مع العالم والتواصل مع الغير.

1- مبادئ الفلسفة التطبيقية:

إن ” الفلسفة التطبيقية هي قبل كل شيء وبالفعل تجربة وجودية تأخذنا إلى أقرب نقطة مما قامت الفلسفة بفعله في بداياتها السقراطية مطعمة بمبادئ وإسهامات نظرية وعملية منذ 2500 عام من تاريخ الفكر”[2].

لقد أدى تعميم الممارسات الثقافية وتسارع الطفرات التكنولوجية إلى فقدان الفيلسوف المعاصر للإحداثيات الطبيعية وتجاوزته الأحداث التاريخية المتسارعة وانفلت من يديه مقود المتابعة وبالتالي قرر مغادرة أروقة المكتبات والتفرغ للتفكير من خلال تهذيب الذوق وشحذ عزيمة الفكر وتنقية الذاكرة وتقوية الخيال.

يساعد إتباع السنة الفلسفية والتشيع إلى مذهب التفلسف على قول أشياء لا يقدر على قولها الناس العاديون وطرح أسئلة جريئة واتخاذ مواقف خطيرة والسعي إلى تقريب الفجوة بين النظر والعمل والى التصالح بين الفلسفة والممارسة وتوفير شروط إمكان صيرورة المشتغلين بالفلسفة ممارسين وملتزمين بتطبيقها.

ربما تكون الفلسفة مجرد محاولة بشرية قابلة للتفنيد ومعرضة للفشل ولكن الخطاب الفلسفي الذي يتمخض عنها ليس فارغا ولا يمكن اعتباره من الأمور العبثية بل يعكس معاناة ويجسد صراعا ضد الرداءة ومليء بالأمل. كما تبعد الفلسفة التطبيقية المرء عن حياة سوء النية بتفكيك ما يفوره الحس المشترك من معتقدات وما تجود به النظريات من خيالات وهمية والسخرية من السائد وتذهب ما وراء الجمل الفضفاضة وتسخر من التنظير وتنزل إلى الواقع وتخوض غمار التجارب المعيشة وتتحمل عناء المسؤولية وتخترع الحلول الأنسب للمشاكل العاجلة وتتفهم الوضعيات وتراعي الخصوصيات وتتوقف عند الجزئيات وتسكن ميادين الحقائق. و إذا أردنا إعطاء تدريس الفلسفة قيمة حقيقية والإبقاء على الحنين الذي يجذب المتعلمين إلى هذه المادة ومحافظتها على بريقها ومعناها من بين كل المعارف والاختصاصات الأخرى فإنه من الضروري استخلاص جملة من الأدوات العملية التي تساعد على توجيه الفكر وتتيح للناس الحياة في المجتمع بشكل تعاوني وتمنح قواعد سلوكية ومسالك عقلانية يتبعونها من أجل ضمان المنفعة العامة والسلامة المشتركة.

هكذا تمنح الفلسفة التطبيقية الناس مفتاح الحياة السعيدة التي يتلازم فيها الفكر والإحساس ويقترن ضمنها الفهم بالاستطاعة وتشجع على اكتساب مهارات وامتلاك كفايات بواسطة إجراء التمارين والقيام بتجارب تجعل العقول أكثر تفكرا وتيقظا وتسمح للكينونة بأن تزداد انسيابيتها وتتجذّر في كثافة أحوالها وشروطها.

من أصول الفلسفة العملية أن يتوجه الأشخاص الأفضل تثقيفا والأحسن روية إلى مساعدة الأشخاص الأقل تثقيفا ولكن يشترط أن تتم هذه المساعدة بمقتضى الفعل المجاني وضمن آداب التعليم من تواضع وكياسة.

تعود الممارسة الفلسفية إلى أسس التمشّي السقراطي الذي يعتمد على السخرية والتهكم وحكمة الجهل في اتجاه توليد الحقائق من العقل البشري ليس بالاكتفاء بطرح الأسئلة بشكل عفوي من أجل الحصول على المعلومات والتعرف على معطيات بل من خلال تطبيق طريقة صارمة في التساؤل المنظم والمنهجي ضمن منطق فكري مترابط وفي إطار تسلسل من الحدود والقضايا يفضي إلى خلخلة التناقضات وتجاوز الصعوبات وتخطي كل أشكال الالتباس وعبور المضيقات وتحطيم الآراء بواسطة عدة مفاهيم تأليفية.

يساعد إثارة المشكلات الحقيقية على ترضية الذات وشحذ العقل وتقوية العزائم لحظة معالجة الأزمات ويؤمن للفكر الدقة والصرامة ضمن علاقة تعاطفية مع الأحداث ومشاركة وجودية في الوقائع والأوضاع.

لا تقدم الفلسفة التطبيقية إلى الناس حلولا جاهزة للتحديات التي يواجهونها ولا تمنحهم مخرجا مناسبا من الورطة التي يقعون فيها بل تساعدهم على حسن طرح مشاكلهم وصياغة تعبيرات صادقة عن أوضاعهم. كما تقوم بعملية الاستشراف والتخطيط المستقبلي والبرمجة العلمية والتنبؤ الموضوعي والقراءة العقلانية وتجعل من ممكنات الحلم والتخيل والتمني مشاريع تحفيزية للتجسيم والتطوير والانجاز في العالم المتعين.

تقوم الفلسفة العملية بإدراج الممارسة الميدانية ضمن حركة الفكر وتقصد إثراء شغل العقل وتعميق نظره وتطعيم تجربته الإبداعية بالمفاهيم الحية والإشكاليات الوجيهة والمناهج الناجعة والتصورات المعبرة. بهذا المعنى لا تقتصر على استعمال المفاهيم المتداولة ولا تكتفي بتنظيفها من الرواسب وتلميع صورتها من الشوائب ولا تنحصر مهمتها في منحها دلالات ومعان جديدة وإنما تبتكر بنفسها مفاهيمها الجديدة التي توافق تغير الظروف وتبدل الأحوال وخصوصية التجارب وغبار المعارك وأحداث التاريخ المتعاقبة .

بيد أن العودة الفلسفية إلى الحياة اليومية ليست أمرا طارئا واهتماما استعجاليا فرضته المعطيات المستجدة وأزمة الثقافة النخبوية وعطالة التفكير التأملي بل تعد اختيارا متعقلا والتزاما مبدئيا ومثابرة منهجية دائمة.

في هذا السياق تستخلص الفلسفة التطبيقية استراتيجياتها من مملكة الحدوسات والانطباعات والتمثلات وتجعلها مادتها الأولية ووقودها الحيوي لكنها تتخذ مسافة نقدية من اليومي وتنسج شبكة من المقولات التي تتميز بالطابع الإجرائي وتبني جسورا تواصلية بين الذوات والجماعات استجابة لإرادة العيش المشترك.

كل مشتغل بالفلسفة هو مطالب بأن يتدخل في الشأن العام ويلتفت إلى القضايا المستعصية على مجتمعه ويقدم مقترحاته وتصوراته ويشجع على التفكير والابتكار وينظم ورشات بحث وفرق عمل وقوى ضغط. ويفسح المجال للمشاركين قصد التعبير عن أفكارهم بحرية وتنظيم اعتراضاتهم على البرامج الجاهزة بثقة تامة في أنفسهم وتشجيعهم على إبداء الرأي وممارسة النقد ومحاسبة النفس وتدريبهم على القيادة والتأثير.

من ناحية أخرى تحاول الفلسفة التطبيقية قراءة العواقب من الأفعال الإرادية وذلك بتذليل الصعوبات وتفادي العراقيل والتقليل من الخسائر وتجنب الأضرار والتركيز على النجاحات والإكثار من المنافع.

2- نقد الحياة اليومية:

“يمكن للمرء القول بأن الفيلسوف ليس أي شيء آخر يفعله سوى أن ينقد منتجات الوعي العفوي، وأن يتحرك على مسؤوليته منذ أن اعتقد بإقامة الأفكار ، مهما كانت، والتي تخيل أنها تحت سلطة القيمة”[3].

لا يبعد العمل الذي يقوم به الفيلسوف التطبيقي عن الإصرار الذي يبديه العامل في شغله والمقاومة التي يتحلى بها الفنان والناقد والمثقف في ميدانه ويجعل من إرادته في الحياة شرط إمكان الإصلاح والتطوير.

بطبيعة الحال يجب أن يكون الفيلسوف واعيا بأن الاختصاص المعرفي الذي ينتمي إليه يرتكز على تقنية التفكير التي يتم تطبيقها على الحياة اليومية بالانتقال من مستوى اليقين الحسي إلى درجة الوعي التفكيري.

إن الكائن البشري ليس وجودا متعاليا ولا موضوعا متجردا من محمولاته ولا جوهرا مفارقا وليس ماهية مكتملة بل هو موضوع متعين وذات فاعلة ووجود حسي وكيان ملتزم بمجموعة من الآمال وعدة مشاريع.

لا يتحرك الكائن البشري ضمن مجرى الأحداث التاريخية فحسب ولا يخضع لمسار الوقائع اليومية فقط وإنما يتطلع إلى تنفيذ جملة من الانتظارات وإيفاء عدد من الوعود ويحرص على احترام عدة معايير وقيم.

في هذا المستوى يحتاج الفيلسوف إلى عالم البشر مثل احتياجه للعقل ليوظفه أداة للمعرفة وملكة للتفكير ويظل يتعلم باستمرار من مدرسة الشعب وتراث الجمهور ويمارس مهمة التنوير العمومي وفعل التثقيف.

هكذا تأتي الفلسفة قبل الحياة في المنطقة التي تسبق كل تفكير وتوجد بصورة صامتة وعفوية في المعارف التي تتشكل بالفطرة ويتم مراكمتها وفق غريزة الحس المشترك والفهم السليم وتظهر أيضا بعد ذهاب شكل من أشكال الحياة وانقضاء نهار الوجود وإتمام الرحلة اليومية وعند المساء لتتأمل وتفكر وتستخلص العبر. بهذا المعنى لا تتطابق الفلسفة مع الحياة بشكل تام ولا تستقل عنها بصورة مطلقة بل تستعيد أشكال الحياة وفق المنهج الذي تمرنت عليه وضمن الجهاز المفهومي الذي يخصها وتسعى إلى الفعل والتأثير والتغيير.

على هذا النحو ليست الفلسفة مجرد تفكير في الحياة بل إن الإنسان لا يجعل فكرها متحركا ولا يعي ذاته ولا يمنح المعنى لوجوده ولا يهتدي بنور الحرية ونبراس المعرفة دون أن تتحول إلى فعل محايث للحياة.

إذا كانت الحياة اليومية تعج بالآراء الدينية الموروثة والمعتقدات التقليدية التي ضمت هي الأخرى جملة من العناصر الإحيائية والمثولوجية والأنثربومورفية والسحرية وتتصور الله على شاكلة إنسان كامل فإن التفكير الفلسفي مطالب بأن يخرج الناس من هذه الكهوف المظلمة وأن يغربل هذه الأباطيل ويجد ليؤسس مبحث الله من حيث هو مشكل طبيعي وأن ينتقل من الإيمان العفوي إلى الانقلاب الروحي والاعتقاد اليقظ.

ليست الفلسفة التطبيقية فلسفة دينية ولا تريد أن تنحصر مباحثها في مسائل الإيمان والمقدس والاعتقاد والبرهنة علو وجود الله وعلى خلود الروح وتحقق من فرضية الحياة الأخرى ولكنها تدرج فلسفة الدين ضمن ممارسة نضالية ثقافية تكافح ضد الغلو المتطرف والإرهاب المقدس والقتل التافه والتكفير الفكري وتبرهن على ضرورة تحويل الاختصاصات العلمية إلى بؤر مقاومة وجبهات مواجهة للجهل واللاّتسامح وتجري امتحانا نقديا لمقولة المطلق ولشامة المتعالي وذلك بالإقرار بالنسبي والتأكيد على أرض المحايثة.

هكذا يقترن التفكير النظري والمعرفة التأملية بالممارسة العملية والتطبيق الواقعي وتضع العقلانية النقدية نفسها في خدمة الفعل البشري وعلى ذمة التجربة الميدانية وتصير الفلسفة صانعة للحياة وليس ناظرة لها.

ليست مهمة الفلسفة التطبيقية التوسط بين النظري والعملي ولا إيجاد وسائط رمزية بين طرفين متقابلين بل تشتغل لتجعل الحياة واعية بذاتها وبمقاصدها وعلى منح الوعي الفلسفي التجربة الحية التي يستحقها. كما أن الخروج من المباشر والمألوف والمشهور قد يتطلب تلاقي حركتين متعاقبتين تذهب الأولى من الراهن إلى السابق في صورة تراجعية وتبحر الثانية افتراضيا من الحالي إلى الآتي في شكل استشرافي .

تتميز الفلسفة التطبيقية التي يمكن تصورها في هذا الزمان عن التعليم التقليدي لهذا الاختصاص، فهي ليست درسا يلقى على المهتمين ولا محاضرة تستوجب فعل الاستماع والمشاركة النشطة من المستمعين. تقوم الفلسفة التطبيقية باستدعاء كل مهتم بأن يمارس التفكير ويستعمل عقله ويضع على ذمة التجربة جميع ملكاته الذهنية ومواهبه العملية من أجل إنتاج حجج أو اعتراضات ومفاهيم وتطوير جملة من المهارات التي تخصي تمشي فلسفي بعينه بغية التمكن من التغلب على قضية شائكة مطروحة ضمن الحياة اليومية.

يسمح استخدام هذه المهارات والكفاءات إلى تطوير جملة من المواقف المحددة تتعلق بمعرفة مسالك الالتزام بالأقوال والدفاع عنها في مواجهة الآخرين والتصريح بالرأي بصورة علنية ومعارضة رأي الغير دون الوقوع في تأثير الانفعالات ودون الخوف من الوقوع في الخطأ وبلوغ درجة من التلاقي من وجهة نظر الآخرين والتعاطف معها وتفهمها دون تبنيها واكتساب الجدارة بإعادة بناء أفكارنا وتجديد رؤيتنا.

يرافق هذا العمل الفلسفي الميداني كل محاولة اختبار للذات يقوم بها المرء من أجل تحيين ذاته في الواقع ويتطلب في سبيل ذلك القيام بتراجع نسبي عن الآراء السابقة وعن التفكير المشترك والسعي نحو معرفة الذات قصد التفريق بين الغامض والواضح وبين الضار والنافع وبين الرديء المنبت والجيد الأصيل. كما يخرج الفيلسوف العملي من مخابره النظرية وورشاته الميدانية وحقوله البحثية وممارساته السياسية وتجاربه النقابية ومعاركه الوجودية ويستدعي التفكير النقدي بغية الاشتغال على المسائل المعروضة في الفضاء العام وتكثيف الاستفسارات ويراكم الإحراجات ويفتش عن التوضيحات بالمناهج والأنساق وينحت صورة راهنة للفكر بالانطلاق من مطالب الناس وقضايا المجتمع والأفكار المتداولة في الحياة.

تمارس الفلسفة فتنة الحب على محبيها وتقدم عزاءات مهمة لكل الكائنات البشرية التي خاضت تجارب وجودية وكللت بالنجاح والاجتياز أو آلت إلى إخفاق وتعثر على الصعيد العاطفي والروحي أو المادي.

إذا حاولنا جعل الفلسفة نافعة في الحياة اليومية ودافعة للضرر ومتخاصمة مع القبح ومتصالحة مع الحسن من حيث منطلقاتها ومراميها فإنه حري بنا أن نبحث في علاقتها بالمعيش اليومي ونتصيد أسسها وندفع بالذكريات الغامضة والمحاولات المحدودة ونعطي معنى لكل تجارب التفكير التي اجتهدت في تخلص العقل من رداءة الواقع البائس ونساعد البشر على تطوير طرق في الحوار ونسرع في أنساق التواصل.

3–تفكيك الأنساق المجردة:

في هذا المقام تستلهم الفلسفة التطبيقية السؤال السقراطي وتبحث عن المرجع وتهتم بالإحالة دائما وأبدا وتعتمد أسلوبا مباغتا وتجري المحاورات بين الذوات والجماعات على الطريقة الفنية وتدفع إلى التفكير بالتهكم من المعارف المكتسبة والسخرية من الآراء الجاهزة وتستدعي الغير بغية الاستفهام والاستنجاد والاستقواء. من حين الى آخر تطرح الأسئلة التي يجد ربها طرحها وتفتش عن سر قتل الحقيقة بحجبها عن الباحث عنها والجهر بها في زمن لا يناسب ظهورها والوقوع في التستر والكذب والمراوغة من جهة وفي التضخيم والمزايدة من جهة أخرى. لقد تم إهمال الذات في زمن طويل وتركيز النظر على الأشياء وبعد ذلك وقع تنصيبها سيدة وملكة وتحولت إلى أداة فكرية تقوم بعالجة كل شيء وتخضع جميع المواد إلى منطق السوق وعقلانية الحساب ومبدأ العرض والطلب وكوجيتو البضاعة ولقد كرس التعليم الموضعة وزادت التربية من لهيب التذويت.

كما تحرص الفلسفة التطبيقية من جهة مقابلة على تدريب العقول على التثبت من قابلية الحقائق العلمية للتثبت وإمكانية القيام بدحضها بعد الاعتراض على وجودها المغلوط وإخضاعها للنقد الداخلي ومقارنتها بقيمة التجربة العملية. من هذا المنطلق يجمع المنهج الذي تتبعه الفلسفة التطبيقية بين التفكير بوصفه مجمل الأنشطة التي ينبغي التدريب عليها من ناحية أولى والممارسة بوصفها مجموع المسالك والمسارات التي يجب التدريب على التفكير فيها قبل اعتمادها من ناحية أخرى وتستلهم المنهج الديكارتي في زمن تشكله الأول لما قطع مع النظريات وعزم على التطبيق[4].

لا يجوز الحديث عن تناقض في مسار الفلسفة التطبيقية طالما أنها تنخرط في ممارسة خاصة تراهن على مقصد متحقق وبالنظر إلى كونها تعتقد في المشاركة العمومية في التفكير وتعتبر جميع الناس فلاسفة على نحو مخصوص وتبحث عن الإشباع الشخصي بالتحرر من المصلحة المباشرة وإحداث الاضطراب في الأصالة وتخترق العادة وتعلق الحكم وتتسلح بالصبر عند المحن والثقة في الذات وتظل وفية للرؤية التي تكتشفها عن العالم بعد دخولها في مواجهة مع ذاته ومع قواعد المنهج والمخاطرة بالكشف عن مكامن الغموض في الذات بإثارة بالمشكل قبل محاولة تغير طرق التفكير والإقرار بأولوية الحكم على الوفاء.

المنهج الذي تتبعه الفلسفة التطبيقية يرتكز على التعاطف العرفاني والتحلي بالتعقل والكياسة والحلم قبل كل رد فعل والاعتصام بالتفكير قبل كل تدبير وكل تفاعل واتخاذ مسافة نقدية من الواقع قبل مساءلته وتشريحه والتمييز بين التجاهل المتعمد والجهل المكتسب وبين الصمت وسط الجلبة والسكوت عن الحق.

يتسلح الفيلسوف التطبيقي بالأدوات النظرية اللازمة والكلمات المفاتيح والمفاهيم الإجرائية الكفيلة باقتحام عالم التجربة والتماهي مع الواقع الاجتماعي ومحاولة فهم الانفعال من خلال معايشته والتعبير عنه بالإحساس به وتضع الفردي في يم الجماعي وتجعل الكلي في حضرة الجزئي وتستثمر التفاصيل للظفر بالكل وتعميق التفكير بالاعتماد على أساليب التحليل والتأليف واستخراج المسلمات وإنتاج الأمثلة ويراوح بين الأشكلة والمحاجة والمفهمة ويحاول إمتلاك مهارات عابرة للتخصصات وتجديل الصلة بين المقولات والوقائع ويضع الفرد أمام مسؤوليته تجاه صخب الحياة وعنف التاريخ ومراوغات السياسة وتزييف الحق.

علاوة على تنظيم الفلسفة التطبيقية لعدد من ورشات التساؤلات المتبادلة بين الفاعلين دون تعيين موضع محدد للحميمي ودون رقابة على الكلام ووصاية على الفكر ودون قمع للرغبات وأهواء الجسد وتدفقاته. تبعا لذلك إن المسار العام للفلسفة التطبيقية يلعب جميع أدواره على مسرح الحياة وفوق مسطح المحايثة الخاص بالنمط العلائقي للوجود المشترك ومستلزمات الحقبة التاريخية ومقتضيات المنهج وبالتالي تستنجد بالتطبيق قصد التحري والتثبت والاختبار من أجل تشييد فكر منسجم وبناء نسق معرفي جماعي ومشترك.

تقوم الفلسفة التطبيقية على زعزعة الفكر المنسجم مع ذاته والتخلص الممارسة من كل إجراءات خطابية مطبقة وإبطاء طرق المعالجة الميدانية والانطلاق من الإحساسات الصادقة والصياغات العفوية وتحرير العقل من المغالطات والعادات السيئة في التفكير ومن الخلط والانسداد والمتاهات ورسم دروب جديدة.

يقاوم الفيلسوف الممارس كل وصايا التحريف للنصوص الأصلية وكل محاولات تزييف للتاريخ وتعنيف اللغة واجتراح الكلمات والمتاجرة بآلام الأجساد ومعاناة الأرواح ويفكر بطريقة مختلفة بإعادة الخروج عن الذات وملاقاة الآخر واستثمار التناقض والمنازلة والتفارق والتوكل على قوة محدوديته وتناهيه.

اللاّفت للنظر أن كل مشتغل بالفلسفة يضع فيها ما يريد وينظر إلى نفسه على أنه أعجوبة عصره وسيد زمانه ويزعم امتلاكه القدرة على جب من سبقوه ولكن الفلسفة في حقيقة الأمر هي بعيدة المنال وعصية.

في اللحظة التي دخلت فيها الفلسفة في رحاب المدرسة والمعهد والجامعة وأصبحت تدرس تحولت إلى أداة للتعليق على النصوص وصارت وسيلة لإنتاج خطاب حول العالم واقتصرت مهمتها على التأليف بين الأنساق المتنوعة من أجل صياغة تأويل أصيل وأهملت كل محاولة لتغيير الذات وتنمية العقل بواسطة الحوار وأضحى المشتغلون بالفلسفة مجرد موظفين واختصوا في الشرح والتعليق على كتب الفلاسفة واستعراض بعض المذاهب والتيارات التي يقتطعونها من تاريخ فكار ومجموعة الأنساق المتعاقبة.

لقد عمل جل الفلاسفة المحدثين وبالخصوص ديكارت وكانط وهيجل وسارتر من تراث سقراط الذي ترك للإنسانية شهادة على البحث الدائم عن الحق والعمل به وقدم الطريقة التي يصير بها الإنسان فيلسوفا بحق. فأية علاقة واقعية وممكنة تقيمها الفلسفة التطبيقية بين قوانين الفكر وقواعد العمل؟

خاتمة:

على هذا النحو” ينبغي أن تصير الفلسفة ، مثل كل تمرين فيزيائي، ممارسة بصورة منتظمة وتقدمية”[5].

في نهاية المطاف تتجه الفلسفة التطبيقية التي ترنو إلى البروز والتأثير بصورة ملموسة نحو تشريح آلام الجسد وتضميد جراحات الوعي ونقد تفاهة الوجود اليومي وتحرص على تخطي الأحكام المسبقة السيئة وحسن استثمار الأحكام المسبقة الجيدة و تتبنى رؤية بيانية خالية من الخطابة الصوتية وواعية بمغالطاته ومحبذة التحرك ضمن دائرة الإقناع بدل الإكراه والتوكيد بدل الموقف القطعي وتسعي إلى تدبير السلوك البشري ضمن رؤية تعقلية وتعقب كوني مستفيدة بشكل مثمر توليدي لما يعتمل فيها من خصوصيات ثقافية وهويات سردية. غير أن الإشكال المثار هو التالي: هل يظل قيام الفلسفة التطبيقية رهين توفر قوانين تفكير حاذق وقواعد عمل صالحة؟ وماذا لو حولنا الوضعية الفلسفية إلى تجربة علاجية ونزهة من أجل حرية الروح؟

لا تقتصر الفلسفة التطبيقية على النظريات العامة والأنساق المجردة بل تتوجه نحو الالتزام الميداني والتجربة الملموسة وتتدخل في سياسة الحقيقة العمومية وضبط استراتيجية للفضاء العلائقي بين الناس وتتبع سياسة حيوية تراوح بين مقاومة الابتذال والعار وصناعة فضاءات رحبة للوجود وتريد حياة حرة وتدفع الكشوفات العلمية والعلوم العرفانية إلى التفكير في مصير الكوكب ومستقبل الحياة على الأرض وتجعل من الانحياز إلى العمق الاجتماعي مركز ثقلها ومن التغيير الجذري عملها الدؤوب ساعية إلى انجاز تحضر انسي راقي ومدنية عصرية قاطعة مع الحنين إلى الماضي والارتداد إلى همجية البداوة.

تمنح الفلسفة العملية للمصلحة الواقعية الأولوية الإجرائية على النسق المنطقي وتنخرط كليا في ممارسة عضوية من أجل توسيع دائرة العقل في مساحة الظلام ومن أجل الاهتداء بفانوس الحكمة في زمن اللايقين وتجعل من التحرير والانعتاق طريقا ملكيا نحو بناء عقلي ايكولوجي يزيد من فائض الأمل والحلم والوعد.
تظل ولادة الفلسفة التطبيقية مقترنا بالقضاء على الأمية الجديدة وكل مظاهر الجهل المعولم وأشكال الخرافة المستعادة وتفكيك القلاع التي ما تزال تعشش في كهوفها الأساطير القروسطية والأوهام الزائفة وتحتاج لتعميم رسالة التنوير مجتازة مدار النخب الضيق نحو الشوارع المتسعة والمساحات الجماهيرية.
لا يمكن للفلسفة التطبيقية أن تقاوم القبح والبشاعة والبلادة إلا بممارسة الفعل الإبداعي للحق وتحويل التجارب الفنية الاستهلاكية والمنتوجات الصناعية إلى مسار تجميلي للوجود والانتصار إلى استطيقا الالتزام والحرية وتنقية الدين من الصنمية وتحويل علم اللاهوت إلى كلام عن المقدس وإعطاء المواطنة قيمة الوفاء للكرامة الشخصية والولاء للوطن والمجتمع. بطبيعة الحال لا يصلح النسيج الاجتماعي بصورة مستدامة ولا يتقدم الفعل السياسي نحو الخير العام ولا يسعى لتقييد السلوك الأخلاقي بأساليب الوعظ والإرشاد والنصيحة ولا يحقق بالشغل الاقتصادي التنمية والثروة والازدهار إلا إذا قامت في الفضاء المواطني تربية جيدة وتعليم متطور وتخطى إخفاقاته وفشله في إنتاج العقول العظيمة.فكيف يمكن بناء الفلسفة التطبيقية دون منطق كلياني؟ وهل يستقيم الفعل البشري عند غياب لوحة قوانين ضابطة؟

المصادر والمراجع:

Descartes (René), Discours de la Méthode, VI, 1637, édition 10-18, Paris, 1963.

Lecoq (Jérôme), La pratique philosophique, une méthode contemporaine pour mettre la sagesse au service de votre bien-être, édition Groupes Eyrolles, Paris, 2014.

Halévy (Elie) , la formation du radicalisme philosophique, tome 3, le radicalisme philosophique, édition PUF, Paris, 1901.

Dumery (Henry), le problème de dieu en philosophie de la religion, édition Desclée de brouwer, 1957.

[1] Lecoq (Jérôme), La pratique philosophique, une méthode contemporaine pour mettre la sagesse au service de votre bien-être, édition Groupes Eyrolles, Paris, 2014, p13.

[2] Lecoq (Jérôme), La pratique philosophique, op.cit. p20.

[3] Dumery (Henry), le problème de dieu en philosophie de la religion, edition Desclée de brouwer, 1957.p14.

[4] Descartes (René), Discours de la Méthode, VI, 1637, édition 10-18, Paris, 1963, pp.74-75. « Au lieu de cette philosophie spéculative qu’on enseigne dans les écoles , on en peut trouver une pratique, par laquelle , connaissant la force et les actions du feu, de l’eau, de l’air, des astres, des cieux et de tous les autres corps qui nos environnent, aussi distinctement que nous connaissons les divers métiers de nos artisans, nous pourrions employer en même façon à tous les usages auxquels ils sont propres, et ainsi nous rendre comme maitres et possesseurs de la nature . »

[5] Lecoq (Jérôme), La pratique philosophique,op.cit. p26.