22 ديسمبر، 2024 7:02 م

الفلسفة الإلحادية في النصّوص القانونيّة و الدستوريّة

الفلسفة الإلحادية في النصّوص القانونيّة و الدستوريّة

قبل البدء لابدّ إن يعرف القارئ الكريم إن هذا المقال هو مقال قانوني بحت ولا شأن لهُ بالأمور الدينية ، بالتالي ليس الغرض منهُ استجداء عواطف فئة معينة أو تحشيد جهة على جهة آخرى . بل غرضهُ الرئيس هو دراسة الفلسفة الإلحادية دراسة دستوريّة قانونيّة ؛ لمعرفة الموقف الدستوري والقانوني من هذه الفلسفة ، فهل يمنع المشرع العراقي هذه الفلسفة بشكل صريح ؟ أم يجيز هذه الفلسفة ؟ أم اتخذ موقف السكوت العاجز قليل الحيلة ؟
للإجابة على هذه الأسئلة سوف نقسم المقال إلى ثلاثة فروع ، الفرع الأول نحدد فيه معنى الفلسفة الإلحادية وذلك عن طريق تحديد مفهوم الملحد ، فإذا انتهينا من الفرع الأول خضنا في الفرع الثاني ؛ لمعرفة موقف قانون العقوبات ، بعدها ننتقل إلى الفرع الثالث ؛ لمعرفة موقف دستور 2005 العراقي، والسبب في تقديم موقف قانون العقوبات على موقف الدستور سيتضح الهدف منه فيما بعد.
الفرع الاول – مفهوم الملحد
ورد في لسان العرب وغيرها من المعاجم والقواميس اللغوية إن كلمة ملحد جاءت من اللَحد واللحد هو الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت لأنه قد أميل عن وسطه إلى جانبه ، وقيل لحد إلى الشيء يلحدُ والتحد مال ولحد في الدين ، وقيل لحد مال عن الحق والإستقامة ، وقال الكفوي : الألحاد هو الميل عن الحق . والحق مهما تعددت المعاني التي أعطتها المعاجم والقواميس لكلمة ملحد فإن الذي يهم هو لفظ الملحد بمعناه الضيق والشائع بين الناس وهو الشخص الذي ينكر وجود الله تعالى و شرائعه السماوية .
الفرع الثاني – موقف قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة(1969)
قلنا سابقًا إن الفلسفة الإلحادية تقوم على أنكار وجود الله تعالى أي يجب إن يكون التجريم وفق هذا الأساس ، والمتفحص لقانون العقوبات لا يجد سوى مادة واحدة تتكلم عن هذا الأمر وهي المادة (372) التي نصّت على إنه ” يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات ، أو بغرامة لا تزيد على ثلثمائة دينار :
مَنْ اعتدى بأحدى طرق العلانية على معتقد لأحدى الطوائف الدينية أو حقر من شعائرها.
مَنْ تعمد التشويش على إقامة شعائر طائفية دينية ، أو على حفل ، أو اجتماع ديني أو تعمد منع ، أو تعطيل إقامة شيء من ذلك.
مَنْ خرب أو أتلف ، أو شوه ، أو دنس بناء معدًا لإقامة شعائر طائفة دينية ، أو رمزًا ، أو شيئًا آخر لهُ حرمة دينية.
مَنْ طبع ، أو نشر كتابًا مقدسًا عند طائفة دينية إذا حرف نصّه عمدًا تحريفًا يغير من معناه ، أو إذا إستخف بحكم من أحكامه أو شيء من تعاليمه.
مَنْ أهان علنًا رمزًا ، أو شخصًا هو موضع تقديس، أو تمجيد ، أو إحترام لدى طائفة دينية.
مَنْ قلد علنًا نسكًا ، أو حفلًا دينيًا بقصد السخرية منه” .
لو تمعنا في هذه المادة نجد إن انكار وجود الله تعالى لا يمكن إن يدخل ضمن نطاقها أو دائرتها ؛ والسبب في ذلك أنها نصّت على افعال محددة ” مَنْ اعتدى … مَنْ تعمد تشويه …. مَنْ خرب” ولم ترد ما يفيد تجريم فعل الألحاد بين طياتها ، عليه إن الملحد الذي ينكر وجود الله ولا يقوم بأي فعل من هذه الأفعال لا تجرمه هذه المادة ولا يدخل ضمن نطاقها.
الفرع الثالث – موقف الدستور العراقي لعام 2005
نصّت المادة (2) من الدستور على “اولاً – الإسـلام دين الدولــة الرسمي ، وهـو مصدر أســاس للتشريع:
أ – لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام . وكذلك نصّت الفقرة الثانية من نفس المادة على إنه ” ثانيًا- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي…” ، إن هذه المادة إشارة إلى عدة أمور واضحة وضوح الشمس وضحاها وهي.
إبراز دور الشريعة الإسلامية وتراثها في حياة الشعب العراقي.
عبرت عن حقيقة فعلية ، إن الإسلام هو دين الغالبية العظمى من الشعب العراقي الأمر الذي يعني رفض الفلسفة الإلحادية .
إن الإسلام هو مصدر التشريع فلا يمكن تشريع قوانين تتعارض معه بأي شكل من الأشكال.
ولكن الدستور وهو ينصّ على إن الإسلام دين الدولة الرسمي ومصدر أساس للتشريع ، نصّ في المادة (42) من الدستور على إنه ” لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة ” ، فهل يمكن إعتبار هذا الأمر تناقض في النصّوص ؛ إذ إنه من جهة يعتبر إن الإسلام دين الدولة الرسمي ، ومن جهة آخرى ينصّ على حرية الإعتقاد الأمر الذي يعني فتح باب الألحاد والمعتقدات الآخرى التي تضع مع الله ألهًا آخر فكيف يستقيم هذا الأمر؟!
في الحقيقة إن سلمنا جدلًا إن هنالك نوع من التناقض ، فهنالك امور تعتبر من المسلمات ومتفق عليها في جميع دول العالم وهي مسألة النظام العام ، فكل دولة لها نظامها العام الذي هو مجموعة القيم والمبادئ والمثل العليا التي تسود مجتمع معين ، والإسلام لهُ مبادئه وتراثه ونظامه العام الخاص به الرافض للفلسفة الإلحادية ، وقد تجسد التراث الإسلامي في كثير من القوانين منها قانون البطاقة الوطنية رقم (3) لسنة 2016 الذي نصّ في المادة (26) منه على إنه ” أولًا- يجوز لغير المسلم تبديل دينه وفقًا للقانون ، ثانيًا- يتبع الأولاد القاصرون في الدين مَنْ اعتنق الدين الإسلامي من الأبوين”.
فالمشرع في المادة أعلاه لم يجز للمسلم تغيير دينه ، فهنا المشرع لم يخالف النصّ الدستوري ؛ لكون هذا الأمر هو أحياء للتراث الإسلامي الذي يمنع المسلم من تغيير دينه ، ومسألة النظام العام أمر موجود في كل دول العالم ، وها هو الحجاب اليوم يثير القلق في أوربا بين الأوساط الشعبية التي تطالب بمنع الحجاب ، ومن هذه الدول فرنسا التي بدأت بتضييق الخناق على الحجاب ، وكذلك بلجيكا التي أقرت عام 2011 قانون يحظر أي نوع من الملابس تخفي وجوه الناس في الأماكن العامة ، أليس هذا حرمان من ابسط حقوق الإنسان؟! ، والأمر الذي يثير الإستغراب أن دساتير هذه الدولة تعج بالحقوق ومشبعة حدّ التخمة في الحريات .
وفي النهاية أقول إن لكل دولة نظامها العام وآدابها وأخلاقياتها الخاصة بها التي لا يمكن مخالفتها حتى وإن كان الأمر يتعلق بنصّ دستوري ، والفلسفة الإلحادية أمر لا يمكن تصوره في المجتمعات التي غالبية سكانها من المسلمين ، وإذا تقبلت الدولة هذا الأمر على مضض نتيجة ضغط المجتمع الدولي ، فإن المجتمع المحلي سيرفض ذلك .
عليه يجب على المشرع إن يحقق الموازنة بين الحق والحرية وبين تراث الشعوب الحضاري والديني بالشكل الذي يؤدي إلى خلق مجتمع متعايش حافظ للحقوق فكل شيء يتعلق بالعقائد يجب إن يكون لهُ ضبط إجتماعي وإداري.