قد يبدو العنوان غريبا للكثيرين ، ولكنه ليس بالغريب عل جميع العراقيين من الذي ولدوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، لأنهم بالتكيد عاشوا مراحل تطور ( الفلافل ) في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية منذ ولادتهم وحتى يومنا هذا ،.
نعم عزيزي القاريء ، الفلافل لعبت دورا أساسيا في حياة الشعب العراقي في كل مجالاته ، وقد يقول بعضكم بأنني قد بلغت من العمر عتيا ، وإن واحدة من مكارم الشيخوخة هي البدء بالهذيان في مواضيع لا تمت للحقيقة بصلة ،، نعم تقارب العمر من الستين ( وحصوة في عين العدو ) ، لكن وعلى عناد الكثيرين لم أصل الى مرحلة الهذيان ، وهذا ما يغيض اعداء العراق والأمة العربية !!!
الفلافل والتي يدخل في مكونها الاساسي الحمص ماعدا في مصر التي طورتها واستعاضت عن الحمص بالباقلاء ، يعرفها الكثيرين اليوم ، وتعتبر الأكلة الاكثر شعبية في معظم البلاد العربية وبخاصة في بلاد الشام وتعد سندويشة الفلافل وجبة شهية ورخيصة السعر في الوقت ذاته ولها مذاق مميز وشهرة واسعة تكاد تتعدى جميع الاكلات الاخرى ، كما لها رائحة مميزة بعد إعدادها تثير إعجاب الجميع .
بعد هذه المقدمة القصيرة ندخل في صلب موضوعنا الأ ساسي ، ففي ستينيات القرن الماضي ، كانت الفلافل معروفة فقط لدى الباعة المتجولين الذين عادة ما يتخذون من أبواب المدارس مصدر رزق له ، وكان جاسم ( ابو العنبه ) واحدا من أولئك الكثيرين ، الذين يصطف طلبة المدارس الإبتدائية أمام عرباتهم للحصول على ( ربع ) سندوتيش الفلافل ! نعم ربع صمونة ( في العراق يستخدم الصمون وليس الخبز في السندويتش ) ، لأن شراء ( لفة فلافل ) وهي الكلمة المرادفة للسندويتش باللهجة العراقية ، تعتبر صعبة بسبب الوضع الإقتصادي الصعب الذي كان يعيشه العراق في تلكم الفترة ،
وعطفا على الصغار الذي لا تكفي مصاريهفهم لشراء حتى ( ربع اللفة ) ومن بينهم كاتب المقال الذي كان والده يعمل سائقا في احدى دوائر الدولة وبراتب قدره ( 18 ) دينارا شهريا ، ولديه ستة طفال ، كان ( جاسم ابو العمبة ) ، واكراما منه لأحوال الواقفين واللعاب يسيل من السنتهم وهم يراقبون من هم يتمتعون بأكلة الفلافل ، يقوم بغطس ( ربع الصمونة ) في سائل ( العمبة ) دون أية حبة فلافل ، ويقدمها مقابل ( 5 ) فلوس ( الدينار العراقي 1000 فلس ) .
على فكرة وللذين لا يعرفون ما هي ( العمبة ) نقول لهم أنها نوع من أنواع البهارات الهندية التي تخلط مع الماء لتكون صلصة وتضاف لها توابل حارة وحسب الذوق ، وعادة ما تؤكل مع الفلافل أو المقليات الأخرى كالباذنجان والبطاطا او الكباب أو ما تسمى باللهجة العراقية ( بالنواشف ) .. والتي تأتي من ( نشف ) المائدة من الأكلة الرئيسة للمائدة العراقية من ( التمن والمرق ) .
وفي بداية تسعينيات القرن الماضي ومع بداية الحصار الظالم !! الذي فرضه مجلس الأمن ( سيء الصيت ) على العراق ، تمكنت الفلافل وبكل جدارة من الفوز بسباق المارثون مع بقية الاكلات العراقية الأخرى ، وتحتل الصدارة في جدول طلبات العراقيين لهذه الاكلة .
ومع شدة الحصار وتأثيره على الحياة الإقتصادية على جميع المواطنين ، وعدم إمكانية توفير المبالغ لشراء البطاطا أو البيض نا هيك على استحالة شراء دجاجة أو حتى ربع كيلو لحم ، ومع أزدياد العاطلين عن العمل ، أصبحت الفلافل تباع في كل زاوية ، حتى أنك ترى في الشارع الواحد الذي يقل طوله عن الكيلو متر واحد حوالي عشرين من يبيع الفلافل باعتبارها الوظيفة التي لا تحتاج الى رأس مال كبير سوى شراء المواد الأساسية وطباخ صغير للقلي وطاولة ، دون الحاجة الى كراسي ، لأن الفلافل لذتها أن تأكل وانت واقف .
ومع إطالة أمد الحصار ، وزيادة معاناة العراقيين جراء هذا الحصار ، وزيادة الطلب على ( الفلافل ) ، بدأ أصحاب المحلات يتفننون في تسمية محلاتهم وأختيار أسماء لها تتناسب وطموحاتهم لجذب أهتمام الناس إليهم ( كجاسم دبل ) وكملة ( دبل ) المأخوذة من الكلمة الإنكليزية والتي تعني ( مضاعفة ) أو تسمية المحلات حتى أصبحت محلاتهم علامة دلالة رئيسة في العديد من المناطق .
واليوم ونحن نعيش فترة الحرية والديمقراطية الجديدة !!! التي خلقها لنا الإحتلال الامريكي ، وبالرغم من تحسن حالة البعض حياتيا وإجتماعيا ، وبات بإمكانه شراء ما تيسر من اللحوم ، أو البطاطا والبيض ( والتي كانت عصية ) على الكثيرين ، إلا إن البعض الآخر لا زال متمسكا ( بالفلافل ) باعتباره شريكا حياتيا وقف معهم في الأيام العصيبة ، وبالتالي لا يمكن لك أن تهجر من وقف معك ايام المحن العصيبة .
والأكثر من هذا وذاك ، فإن السياسيين في كل بلدان العالم ، يستغلون المناسبات للدعاية الإنتخابية وكسب رضا الناخبين من خلال التفاخر بالانجازات التي حققها في الفترة التي تسنم خلاله منصبه كعضو في البرلمان او وزيرا أو .. أو .. الخ من المناصب الحكومية ، وطرح مشاريعه المستقبلية التي تؤهله للحصول على مكانه أو أكثر بكل جدارة وحسب الإنجازات التي حققها أو ستتحقق خلال الفترة المقبلة ، إلا في العراق الجديد ، فالوضع فيها مختلف 180 درجة ، فالسياسيين فيه ، لا يوجد لديهم ما يتفاخرون به أمام شعبهم ، وسمعتهم السيئة تطاردهم في كل مكان يحلون فيه ، وسرقاتهم ، وجرائمهم ، باتت مكشوفة ، وأنفضح أمرهم ، في كونهم شلة ( حرامية ) يريدون أن يبعوا العراق أرضا وبحرا وجوا !!،
فالسياسيون العراقيون لم يجدوا شيء آخر يتجاوزون عليه ويسرقوه ، وبكل وقاحة وعدم الحياء لجأوا الى ( الفلافل ) كي يستنجدوا بها ، والقيام بتوزيع ( لفات ) منها وهم ورعاعهم يدورون بين أوساط الناس البسطاء في المناسبات الدينية أو التجمعات ، باعتبارها جزء من عمليتهم الإنتخابية ، وكونهم يعلمون جيدا أن ( الفلافل ) كانت ولا زالت الصديق الصدوق لملايين العراقيين طوال سنوات حياتهم ، و تعتبر جزء مهم من حياتهم الإجتماعية ، و من ذكرياتهم ، ولازالت لدى الكثير ، هي الملاذ الاًمن لسد رمقهم من الجوع .