19 ديسمبر، 2024 9:35 م

الفكر القومي التركماني وغياب المشروع السياسي/1

الفكر القومي التركماني وغياب المشروع السياسي/1

من البديهيات التاريخية أن نشوء الفكر القومي التركماني قد أتى بموازاة نشوء ألأفكار القومية ألأخرى بعد تأسيس الدولة العراقية مابعد الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية ألأولى, ففي تلك الفترة أخذت الكثير من ألأفكار والتوجهات القومية منها أو ألأممية بالتبلور وأخذت فيما بعد ظهور الدولة العراقية الحديثة الطابع السياسي متأثرة بظهور تلك الدولة.

وقد حاولت بعض ألأطراف القومية إبراز نفسها في بنية الدولة العراقية الفتية في ذلك الوقت من خلال ألاستفادة من المتغيرات الجذرية التي طرأت على الفكر العالمي والتناطح الذي ظهر في تلك الفترة مابين إيديولوجيتين متناقضتين وهما الرأسمالية العالمية والاشتراكية الحديثة.

وقد كان للصراع ألإيديولوجي مابين الرأسمالية والاشتراكية تأثير كبير على دول الشرق ألأوسط (وخاصة العراق ) من الناحيتين الفكرية والسياسية, وذلك لسبب جوهري وهو أن العراق يعد ضمن مصاف ( المجتمعات المركبة ) وهي المجتمعات التي تتميز بأنها دول تتكون من أعراق وديانات وطوائف مختلفة, ورغم أن العراق في ذلك الوقت كان شكل نظام الحكم فيه يندرج ضمن نمط نظام ( الدولة البسيطة ) وهي التي تتميز بأنها تحت نظام تشريعي وتنفيذي وقضائي موحد, ومن البديهي أن تغلغل ألأفكار وألايديولوجيات المختلفة بنية هذه المجتمعات المركبة التي تم دمجها وحصرها داخل حدود سياسية واحدة, والعراق أصدق نموذج على ذلك.

من هنا نستطيع أن نقول أن الفكر القومي التركماني بدأ بالتبلور والظهور بالتزامن مع ظهور ألأفكار والطموحات السياسية للأطراف العراقية ألأخرى التي تكون إلى جانب التركمان النسيج ألاجتماعي العراقي.

والفكر القومي التركماني كان في بداياته يندرج ضمن إطار رد الفعل ضد ألإقصاء والتهميش ألاجتماعي والثقافي الذي تعرض له تركمان العراق منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة, وكان الفكر القومي التركماني في تلك المرحلة لايتجاوز لدى الفرد التركماني مرحلة الشعور والانتماء القومي ومن دون وجود أي غطاء سياسي أو تنظيمي ينظم هذا الفكر.

والملاحظ, أنه وبعد إعلان قيام الجمهورية العراقية وإسقاط النظام الملكي في العراق, وماأعقب ذلك من عمليات الجينوسايد وألاعمال ألإرهابية التي استهدفت تركمان العراق, فان تلك الحوادث مثلت مرحلة التهيئة لظهور الفكر القومي التركماني بأبعاده السياسية الواضحة الملامح, ومرحلة وضع إطار فكري لهذا الفكر يجسد الحالة التركمانية وطموحات التركمان السياسية والثقافية والاجتماعية .

من هنا بدأت القضية التركمانية بالظهور باعتبارها تمثل قضية شعب في العراق, ولكن هذه القضية لم تفتح شهية تلك الدول التي كانت لديها مصالح في العراق أو تلك الدول التي كانت لديها نيات مبيته ان صحّ التعبير, ومرد ذلك لسببين مهمين وأساسيين:

أولهما , أن ( جغرافية توركمن ايلي ) لم تكن تتاخم حدود أية دولة إقليمية , رغم غناها بالموارد الطبيعية .

ثانيهما , أن التركيبة ألاجتماعية لتركمان العراق كانت مدنية جدا” قياسا” إلى باقي المجتمعات العراقية.

وهذه ألأسباب كان لها تأثير بارز في تأخر ظهور الحركة التركمانية العراقية بإطارها السياسي المنظم الى مابعد حرب الخليج ألأولي في العام 1991 , ومن هذا التاريخ تحديدا” بدأت الحركة التركمانية بالظهور في

اطار حزبي تنظيمي ذات طابع قومي تركماني, ولم تكن تلك الحالة في بداياتها ألأولى حالها حال باقي الحركات السياسية ألأخرى في بداياتها مكتملة ألأركان, بل شابها العديد من ألإخفاقات وبرزت حالة التذبذب في الخطاب السياسي التركماني, ولم تتمكن في تلك المرحلة من إيجاد حل سياسي يضمن تحقيق أبسط الحقوق القومية المشروعة لتركمان العراق وبما يناسب حجمهم الحقيقي في العراق, وللأسف الشديد كانت لتلك التخبطات أثر عميق في رسم الرؤى والتوجهات التي مازالت تسود الحالة التركمانية حتى اليوم.

ومما يجدر ألإشارة إليه لأنه يعد من ألأمور المهمة جدا”, أن الكثير من ألأحزاب والتنظيمات السياسية التركمانية لم تبرز وفق مشروع سياسي هو وليد المعاناة السياسية التركمانية, ولم تأتي في الوقت نفسه بالحلول المناسبة, ولم تبادر الى طرح رؤية أيديولوجية أو رؤية سياسية معينة للقضية التركمانية, بل أن القاسم المشترك بين هذه ألأحزاب والتنظيمات التركمانية أنها ظهرت وبرزت بنفس النمط , مع غياب البعد ألاستراتيجي لها , والشيء اللافت أنها كانت تختفي فجأة بعد فترة وبنفس طريقة بروزها المفاجئة.

وهذه التنظيمات لم تكن في حقيقة ألأمر غير تكتلات اجتماعية تحت مسمى سياسي حزبي, وان تحزب ألأشخاص داخل هذه التنظيمات كان بسبب كونهم يرتبطون بصلات اجتماعية وثقافية فيما بينهم, ومن ألأمور المعروفة أن تركمان العراق كأفراد وبنسبة عالية إجمالا” لم تكن لديهم تجارب سياسية أو تنظيمية مسبقة.

وأمر بديهي أن مثل هكذا أحزاب وتنظيمات لايمكنها أبدا” أن تنشئ جيلا” سياسيا” يكون بمثابة البديل الحقيقي لها, مع غياب تفاصيل الفكر التنظيمي وغياب عملية ألإعداد والتهيئة للكوادر الحزبية. ناهيك عن افتقارها لثقافة النقد والنقد الذاتي والتي لم يكن لها أي وجود أصلا” داخل هذه ألأحزاب والتنظيمات, بألاضافة لذلك كله انعدام أبسط مقومات ألإيديولوجية السياسية, وعقلية التخطيط, والهندسة السياسية, ونظام ألإدارة, والتدرج الحزبي السليم.

ومن سوء حظنا نحن تركمان العراق فاننا لانملك حتى اليوم أي توثيق سياسي للمراحل التي مرّ بها الفكر التركماني , ونفتقر إلى التحليل والدراسة للمراحل التي مر بها هذا الفكر, وحتى إن وجدت فإنها لاتتعدى سوى تناول أمور هامشية ومن دون تقديم الحلول الكفيلة بإجراء إصلاحات فيها, للنهوض بالواقع السياسي والتنظيمي التركماني.

بعد سردي للمراحل التي مرت بها الحركة التركمانية منذ نشوئها ومراحل التطور التي مرت بها, وقراءتي للواقع التركماني اليوم, ومع تأكيدي أنها لم تصل إلى مستوى الطموح القومي لتركمان العراق, أرى وحسب رأيي الشخصي المتواضع وبعد تشخيص مكامن العلل والمسببات ضرورة أن تبادر ألأحزاب والحركات التركمانية اليوم لصياغة إستراتيجية قومية تتناسب مع طموحات أبناء الشعب التركماني في العراق وبما يتناسب في الوقت نفسه مع حجمهم وثقلهم.

وهذا ألأمر يتم من خلال القيام بخطوات تستند على التحالفات الحزبية والبرلمانية, وأن يتم صياغة خارطة طريق تركمانية موحدة , وأن تتم وضع آلية عمل لتحرير ألأراضي والمدن التركمانية المغتصبة.

والمطلوب اليوم من كافة ألأحزاب والحركات التركمانية المبادرة والعمل الجاد من أجل حث الشارع التركماني وإقناعه بالمساهمة بالعمل الحزبي بشكل مباشر أو غير مباشر, وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة بناء جسور الثقة مع القاعدة الجماهيرية التركمانية التي أصابها اليأس وألاحباط بسبب بروز حالة الصراع والتناحر الشخصي والكتلوي داخل الحزب الواحد.

وألاحزاب والحركات التركمانية اليوم مطالبة بكلمة فصل؟ ( أما أن تكون أو لاتكون), وان أرادت أن تكون فان عليها أن تتحد فيما بينها وفق نظرة واقعية للحالة السياسية التركمانية, ومن دون قبول باملاءات وخلق للأمر الواقع من بقية ألأطراف.

وليعلم الجميع ( مهما حاول البعض تشويه الحقائق فان التاريخ لن يرحمهم أبدا” ).

أحدث المقالات

أحدث المقالات