28 ديسمبر، 2024 1:47 م

الفكر السياسي للغزالي من خلال قراءة المستشرق إرفن روزنثال

الفكر السياسي للغزالي من خلال قراءة المستشرق إرفن روزنثال

لقد درس المستشرق إرفن روزنثال في كتابه الموسوم الفكر السياسي في الإسلام الوسيط  (Political Thought In Medieval Islam)، نظرية الغزالي (ت505هـ/1111م) السياسية، ضمن القسم الأول من كتابه هذا، الذي عنونه بالشريعة وتاريخ المسلم، وتحديداً الفصل الثاني منه، الذي خصصه للبحث في الخلافة، إذّ تضمن هذا الفصل الإشارة إلى أبرز شخصيات الفقه السياسي الإسلامي السُنّي في العصر الوسيط، وهم: أبو الحسن الماوردي وأبو حامد الغزالي، وابن جماعة، وابن تيمية.
وقبل الدخول في تفصيلات وعرض موقف إرفن روزنثال من آراء الغزالي السياسية، لابد من التعريف بهذا المستشرق وما قام به من دراسات مهمة على صعيد الفكر السياسي الإسلامي، دبج بها المكتبة الاستشراقية الغربية، وعَرَفَها بما ألفه المفكرون والفلاسفة وفقهاء السياسة العرب في العصر الوسيط.
أقول: يعتبر المستشرق الألماني إرفن رونثال الألماني المولد، الإنجليزي الموطن، أحد ابرز المهتمين بالدراسات السياسية الإسلامية الوسيطية، وترجمة نصوصها الضائعة بأصولها العربية من العبرية إلى الإنجليزية، ولاسيما كتاب ابن رشد الموسوم تلخيص السياسة.
 وإرفن روزنثال هو أحد ابرز تلامذة المستشرق الألماني/ الأمريكي المعروف ليو شتراوس (1899/1973م) ، وصديق للمستشرق المعروف ريتشارد فالزر، ويُعدّ ليو شتراوس أحد أبرز الموجهين لفكر ومنهج روزنثال في قراءاته للفلسفة السياسية الإسلامية. وذلك من خلال كتابه (=شتراوس) الشريعة والفلسفة.
ويشير الباحث المدقق في تاريخ المستشرقين نجيب العقيقي إلى أبحاث ومؤلفات إرفن روزنثال، وهي:
1 ـ ابن خلدون، موازنة بينه وبين ميكافيلّي، ميونيخ 1932.
2 ـ دراسات عن ابن خلدون، نشرة مكتبة جون ريلاندز، 1940، الأندلس 1955.
3 ـ ابن رشد، مجلة الجمعية الملكية الآسيوية، 1934، نشرة مكتبة جون ريلاندز 1937. ونشرة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية 1953.
4 ـ أثر العرب في البرتغال، 1936.
5 ـ أثر العرب في أسبانيا، 1937.
6 ـ «الفارابي»، صحيفة الجمعية الأمريكية الشرقية، 1942. والثقافة الإسلامية 1955.
7 ـ  المظهر السياسي للإسلام، في الثقافة الإسلامية،1948.
8 ـ ابن باجة، مجلة الثقافة الإسلامية ، 1951م.
9 ـ ابن سينا عالم وفيلسوف، لوبكنز، 1952.
10. الفكر السياسي في الإسلام الوسيط، كيمبردج 1968. وقد قمت بتعريب هذا الكتاب إلى العربية وبانتظار نشره في أحد دور النشر العربية.
قراءة إرفن روزنثال لفكر الغزالي السياسي
ينطلق إرفن روزنثال في تحليله للفكر السياسي عند الغزالي من مرجعيات غزالية بالأساس، وهي مجموعة مؤلفاته التي تناول فيها موضوع الخلافة والإمامة وأشكال الحكم، وطبيعة الحكم السياسي زمانه (=الخلافة العباسية، والحكم السلجوقي) ومدى موائمته للشريعة الإسلامية، وفي هذا الصدد يأتي تقييم روزنثال للفكر السياسي عند الغزالي، انه فكر واقعي ينطلق من أرضية سياسية براغماتية معاشة زمانه، طرحتها جملة الظروف الحاكمة والمتحكمة بذلك الوضع ، بقوله: ((إنّ الثغرة التي تفصل النظرية التقليدية للخلافة المستندة على الشرع عن الواقعية السياسية للخلافة العباسية المهيمن عليها السلطان السلجوقي ربما بدت جلية وواضحة بأقوال الإمام اللاهوتي الشافعي المشهور والفيلسوف الديني والمتصوف أبي حامد الغزالي)).
ويرمي روزنثال من هذا الحكم الابتدائي بصدد تشكل الفكر السياسي للغزالي، أن الظروف السياسية المضطربة في زمن الغزالي، ونتيجة لمعايشته لها، قد فرضت عليه واقعاً جديداً في الرؤية يختلف نوعاً ما عن سابقيه من فلاسفة وفقهاء السياسة، جاءت لربما مختلفة نوعاً ما عن اليوتوبيا المتخيلة لشكل الحكم الخلافي الموروث من هؤلاء الفقهاء للسياسية، وفي هذا الحكم من قبل رزنثال فيه من الصحة والصواب الكثير، فعلى الرغم من معرفتنا بثقافة الغزالي العميقة في معظم ما تكلم فيه من فقه وأصول وفلسفة وتصوف وغيرها، إلا انه كان يتحرك ضمن هذا التنوع الفكري في داخله من رؤية ثاقبة للمتغيرات السياسية والعقيدية والفلسفية زمانه، فيجعل من الواقعة السياسية هي المتحكمة بنتاجه الفكري فيما بعد، أي ان الواقع هو الذي ينعكس في الفكر وليس الفكر هو الذي يؤطر الواقع ويتحكم فيه، وهذا ما سنلمسه في أحكامه وأرائه السياسية التي شكلت نظريته بعامة في هذا الجانب.
ويعضد روزنثال رأيه هذا بشأن واقعية وبراغماتية الغزالي السياسي، بحسب ما قرأه واستنتجه من نصوصه في كتبه الاقتصاد في الاعتقاد أو فضائح الباطنية (المستظهري)، أو إحياء علوم الدين أو التبر المسبوك في نصيحة الملوك غيرها،  بالقول: ((إن أقواله (=الغزالي) يجب أن تفهم على أساس الخلافات الدينية والسياسية المتناظرة، وقد تركت شخصيته وردت فعله السريعة للنزاعات الدينية والحركات السياسية والآراء البارزة في كل كلمة كتبها….وهو متأثر بمجادليه).
ومن جانبي أقول: أن الغزالي فعلاً قد عاش في ظروف سياسية مضطربة، أملت عليه هذه الرؤية السياسية، لاسيما من ناحية وجود صراعات عقيدية – سياسية، بين ما يطرحه الفقه السياسي السني حول الخلافة وما تطرحه فرقة الإسماعيلية الباطنية حول الإمامة، تلك الفرقة التي كان لها نشاط ملحوظ زمن الغزالي، وقد لعبت هذه الفرقة دوراً ملموساً في الصراعات السياسية والعقيدية آنذاك، تكللت بالنجاح في اغتيال الوزير نظام الملك (485هـ/1092م) الذي كان الغزالي معززاً مكرماً في كنفه، ذلك إن اغتيال هذا الوزير الذي كان أحد حماة العقيدة الأشعرية في نظرتها السياسية والفكرية، قد ترك جرحاً ناغراً في نفس وعقل الغزالي، مما جعله يتصدى لهم فكرياً في كتابه المستظهري، حتى قيل أن هذا الكتاب قد أسهم كثيراً في تقويض سلطة الإسماعيلية السياسية والعقيدية.
وينطلق روزنثال من مرجعيته الفكرية الغربية التي تؤطر منظوره في الحكم على نتاج الغزالي السياسي، تفوح منها رائحة ميكافيلية واضحة، يفهم منها أن الغزالي كان يتحرك ضمن ما يمليه عليه الواقع السياسي زمانه ولا يأبه لمرجعيته الدينية الإسلامية، على الرغم من كونه رجل يتمتع بالاستقامة الأخلاقية التي رباه عليها الإسلام، يقول روزنثال: ((لا يمكن أن نتوقع الاستقامة عندما تكون عدم الاستقامة قد مرت دون ذكر في فكر وضمير مفكري العصر الوسيط، على الأقل في الإسلام الذي خطط أن يوائم داخل نفسه كثير من الأنظمة المتناقضة في الأفكار، الغزالي ليس الوحيد الذي بدَّل أفكاره أو ولائه للأفكار التي يحملها، فرفاقه بالأمس باتوا أعداؤه اليوم،….، وفي تفحص أقواله في السياسة، فهذا يعني أن علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار الزمن والظروف بدرجة ليست بأقل من اعتبارنا للغرض الذي يهدف إليه عندما كتب تلك الأقوال، ومن ثم فلا نندهش عندما نجد في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد عرضاً لطبيعة وغرض الإمامة، بشكل تقليدي مألوف، مثلما وجدنا ذلك عند الماوردي، فضلاً عن ذلك، فإن كتاب المستظهري يحيل بعامة إلى الواقعية السياسية والاستعداد لتقديم تنازلات مناسبة، وأخيراً في كتابه إحياء علوم الدين يتمنى للنفوذ الفعلي للسلطان السلجوقي حماية عُرف الخلافة باعتبارها رمزاً لوحدة المجتمع الإسلامي)).
وإذا ما جئنا لنتناول آراء الغزالي السياسي في كتبه التي أشرنا إليها في نص روزنثال آنفاً، نجده في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، (الذي يوجه نظرنا عنوانه إلى انه يريد ان يضع مخططاً لكيفية النظر في اللاهوت والفقه بشكل مقتصد لا تفصيل فيه)، يتحدث عن موضوع الإمامة باعتباره فقيهاً لاهوتياً، ذلك أن هذا الكتاب من وجهة نظري لا جديد فيه على ما قيل عند السابقين في هذا الباب ولاسيما عند الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية أو أدب الدنيا والدين او غيرها، فالماوردي بامتياز هنا موجه ومرشد للغزالي ولغيره في باب الحديث عن الإمامة. يقول الغزالي في هذا الكتاب ((النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات، ثم أنها مثار للتعصبات، والمُعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض، بل وإن أصاب، ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد، فإن القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديدة النفار)).
يقول روزنثال موضحاً ما يريده الغزالي هنا (( في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد، يتحدث باعتباره فقيهاً، وهناك ميزة في إدعائه في بداية الباب الثالث المعنون في الإمامة، أن بحثه كان مسألة فقهية، ولا يتعلق بالشؤون العملية (المهمات) ولا بالميتافيزيقا (المعقولات)، لذلك فهو ينكر على الفلاسفة حق اختيار الإمامة في ضوء فلسفة اليونان السياسية، وبدون شك فهو يشير بذلك إلى ابن سينا، وهو يبين ذلك بقوله (ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذاً من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع)،  مثلما فعل الماوردي.
يرى الغزالي ان الفلاسفة المسلمين من أمثال الفارابي وابن سينا يضعون علم السياسية ضمن ما يسمى بالعلوم العملية، التي مهمتها النظر في الحق من أجل العمل والممارسة، في مقابل العلوم النظرية التي مهمتها النظر في الحق من أجل الحق. وهم بذلك متأثرون بوضوح بما قاله الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه السياسيات، وهذا العلم كما يراه الفلاسفة المسلمون يهتم بالإمامة، والغزالي هنا يردد ما قاله هؤلاء الفلاسفة في كتابه مقاصد الفلاسفة، لكن ليس من اجل أن يتبناه ويأخذ به، بل من اجل تبيان أن البحث في الإمامة عنده إنما يقع ضمن إطار الفقهيات، وهذا خلاف بين وواضح بينه وبينهم. هذا من جهة، ومن أخرى، أن رأي الغزالي في اعتبار النظر في الإمامة يقع ضمن الفقهيات، إنما رد واضح على رأي بعض الفرق الإسلامية ولاهوتها الذي يرى أن النظر في الإمامة إنما يكون في أصول الدين (علم الكلام)، وهذا هو رأي الشيعة بخاصة.
وعندما ننظر في كتابه الآخر الذي بحث فيه موضوع الإمامة، ألا وهو كتاب المستظهري أو فضائح الباطنية، نجد أن الغزالي في تبنيه للحل الفقهي للإمامة باعتباره فقيهاً شافعياً مرموقاً، ((أراد أن يبعد مشكلة الإمامة عن مملكة السياسة العملية)).لأن غاية وهدف هذا الكتاب كما يستنتج روزنثال بحق، هو ((تثبيت شرعية الخليفة العباسي المستظهر بالله (ت512هـ) ضد معارضيه من طائفة الباطنية (=الإسماعيلية) التي تعترف بشرعية دولتها الفاطمية، وبما أن السلطان السلجوقي كان يمارس السلطة الفعلية، كان على الغزالي أن يُثبِت إدعاؤه لشرعية الخليفة العباسي فقهياً)).
إن تحليل هذه النصوص السياسية ذات الطابع الفقهي عند الغزالي من قبل روزنثال، تدل دلالة واضحة على فهم هذا المستشرق لبنية فكر الغزالي السياسي وكيف يتحرك ضمن محيطه والظروف والملابسات التي أنتجته، وكيف أن الغزالي كان واعياً بحذق لتلك الظروف ووجد فيها مخارج عدة ذات بعد براغماتي وإن كانت تتأطر ببعد شرعي ديني. ويتضح هذا الفهم المعمق من قبله لنصوص الغزالي سواء في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد أو المستظهري، بقوله ((ولهذا السبب كانت ضرورة الإمامة وضرورة الحديث عن مؤهلات وواجبات الإمام أو الخليفة مبررة في مصطلحات مثالية غالباً في كتابيه، رغم أن الغزالي كان أقل دقة في مطالباته للخليفة في كتاب المستظهري، والإمامة ضرورية لما فيها من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، وهو منصب ضروري لحياة المسلم، طالب به إجماع المسلمين بعد وفاة النبي محمد، ….وفي الحقيقة أن النظام السليم للدين ممكن فقط من خلال النظام السليم للعالَم والذي بدوره متوقف على الإمام المطاع)).
أن الغزالي في كتبه الآنفة الذكر قد استبدل ألفاظاً ومصطلحات سياسية كانت مستقرة في مؤلفات ونصوص فقهاء السياسية المسلمين إلى زمانه، من أمثال الماوردي والجويني والبغدادي وغيرهم، بمصطلحات وألفاظ تتناسب مع الواقع السياسي زمانه، وما ظهر من عبارات التفخيم لدى أمراء السلاجقة زمن الدولة العباسية باعتبارهم سلاطين وأمراء يتحكمون بفاعلية ونفوذ في مقدرات تلك الدولة، مما يعني بنظرنا أن الواقعة السياسية هي التي تفرض على المفكر في زمانه وحينه أن يتعامل معها بحذق ودراية وتنظير يتناسب مع ما تطرحه من ألفاظ ومصطلحات، فيتبناها ذلك المفكر، والغزالي السياسي كان واعياً لذلك بشدة.
ومن هذه المصطلحات التي ظهرت في مؤلفات الغزالي السياسي، مصطلح (السلطان)، لتحل محل كلمة (إمام) في بعض نصوصه، ذلك أن كلمة إمام ذات بعد دلالي معروف عند مفكري الإسلام السياسيين، ويقصد الغزالي بالسلطان (السلطة، القوة)، وليس رجل السلطة، الحاكم، وهو واضح في الحديث النبوي الذي يقتبسه تعزيزاً لقوله: إنّ الدين والملك تؤمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. 
إن روزنثال في معالجته لمصطلح السلطان عند الغزالي، استعمله بأكثر من معنى ودلالة، فمرة استعمل لفظة Authority، التي تعني السلطة الفكرية والروحية والدينية على الإنسان، وأخرى استعمل لفظة Power، التي تعني القوة السياسية والنفوذ السلطوي الحكومي. وهذا التمييز من قبل روزنثال يدل من وجهة نظرنا على فهم عميق لمدلول المصطلح وطريقة تداوله في داخل النسق الفكري عند الغزالي.
وبصدد تقويم روزنثال لفكر الغزالي السياسي، لاسيما في موضع مؤهلات الإمام (الخليفة)، التي يعتبرها الغزالي فكرة ضرورية، ولاسيما في مسألة الجهاد، أن هناك اختلافاً جزئياً مع الماوردي، بسبب المنصب السياسي العام والحالة الخاصة للخليفة المستظهر، فيقول((فالقدرة على إعلان حالة الجهاد تكون مشترطة بإحلال النجدة والشجاعة، وتعتبر هذه دوماً واحدة من الواجبات الرئيسية للخليفة، لكن الغزالي واجه حالة الخليفة الشاب والسيد السلجوقي المتنفذ، شارحاً سبب غياب هذه القدرة عند المستظهر بالإشارة إلى شوكة وقوة وتمكن السلاجقة الذين يضمنون النجدة المطلوبة من الخليفة، وهو لا يريد أن يفكر بهم حكاماً مستقلين ولكن خدماً موالين للخليفة)).
أما في مسألة علم واجتهاد الخليفة، فإن الغزالي يناقش هذه الخصلة بتفصيل مهم في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد (ص216)، من منطلق كونه فقيهاً وأصولياً وفيلسوفاً مطلعاً بعمق على كل النتاج الفقهي والأصولي والفلسفي في السياسة وما حولها إلى زمانه، ومضيفاً إلى ذلك عبقريته الخاصة وواقعه المعاش، وما يعكسه هذا الواقع من إشكالات لا يمكن تجاوزها، يقول الغزالي ((فإن قيل: فإن كان مقصود الخليفة حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء ويمنع الخلق من المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد، فلو انتهض لهذا الأمر من فيه  الشروط كلها سوى شرط القضاء (الاجتهاد) لكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه؟،أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟، قلنا: وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته، لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالماً بنفسه أو مستفتياً من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره، إذا افتقرنا إلى تهيج فتنة لا ندري عاقبتها،…، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية تتمة للمصالح فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها)).
إن هذا النص الطويل من كتاب الاقتصاد والاعتقاد يرى فيه روزنثال منطلقاً لفهم خاص عند الغزالي مفاده أن الخليفة ((في القضايا ذات القوة المؤثرة يعتمد على الأقوى، أي السلاجقة، أما في قضايا فن الحكم، أي إدارة شؤون الدولة فنجده يتكل على حكمة وزيره، …، لذلك فالنصيحة للخليفة هو أن يستشير علماؤه ويعمل على وفق مشورتهم، ومعنى ذلك أن المقلِد الذي يثق بسلطة الآخرين يكون مؤهلاً بشكل أفضل)).   
والتقليد يعني هنا الاعتماد على المرجعيات والسلطات السابقة في الحكم، لأن بالرجوع إليها يمنع حدوث الفتن والاضطرابات الناتجة من خلع الخليفة،، ويشجع على الاستقرار والأمن.
وإلى جانب مزية أو صفة العلم للخليفة، يضع الغزالي خصال أخرى، على الخليفة أن يتحلى بها، ومنها: الورع والكفاية مع زيادة نسب القرشية، وهذا الشرط الأخير يرى فيه الغزالي أنه شرط سمع عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، في حين يسقط هذا الشرط الإمام أبي الحرمين الجويني والعلامة عبد الرحمن بن خلدون.
إن هذه الشروط التي وضعها الغزالي بحسب وجهة نظر روزنثال، إنما سببها إجبار الخليفة العباسي المستظهر على دراسة الشريعة والتمعن فيها، ((لأنه يستطيع من خلالها أن يحصل على طاعة أتباعه فقط، ليعيش ويحكم وفقاً لتعاليم الشريعة، وهو ما يتوقعه المرء من خليفة مسلم في الحكم، أن نصيحة كهذه مأخوذة من كتاب مرايا الأمراء (=التبر المسبوك)، ومن الرسائل الأخلاقية، ولا يشكل الغزالي حالة استثنائية في ذلك، ولكون الإمامة تستند على مبدأ العدل، وهو الشكل الأسمى للعبادة، ولعبادة الرب،…، وتشكل المعرفة (العلم) وتطبيق الشريعة دليلان أكيدان للخليفة في منصبه هذا، فالعلم والعبادة (الورع) تصمنا النظام السليم للدين)).
يحيلنا هذا التحليل لروزنثال إلى ان الغزالي في كتابيه التبر المسبوك في نصيحة الملوك والاقتصاد في الاعتقاد، يرى في الخليفة (ظل الله في الأرض)، يقول في كتابه التبر المسبوك، ص54، ((ينبغي أن يعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في أرضه، فغنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته،..، فينبغي كل من أتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وان يطيعهم، والسلطان العادل من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد)). ويتكرر هذا القول في كتابه المستظهري، ص92، والاقتصاد في الاعتقاد، ص215.
فضلاً عن ذلك، يرى روزنثال ((ان الغزالي يذهب إلى وجوب تقييد الخليفة بالواجبات الدينية، وهو مُلزم أن يوجه تفكيره نحو دراسة الشريعة، وأن يمارس القيم الدينية من إحسان وشفقة وعطف باعتباره خليفة الله، ولهذا السبب يشدد الغزالي في الطرف الثالث من فصل الإمامة في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، على شرح للعقيدة مع الإيمان بالخلفاء والصحابة، ونبذ السب والشتم للناس بحقهم)). ويبدو أن هذا الأمر قد أخذ مداه عند الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، بتخصيص محلاً مهماً في هذا الكتاب لمعالجة مشكلة سياسية دينية، تتصل بالخلفاء الراشدين والصحابة، إذ يعقد فقرة مهمة حول موقف الناس من هذا الأمر، وينصح الخليفة والسلطان بأخذ هذا الأمر محمل الجد، يقول الغزالي(( إنهم في إسراف في أطراف، فمن مبالغ في الثناء يدعي العصمة للأئمة، ومنهم متهجم على الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة (معاوية على سبيل المثال)، فلا تكونن من الفريقين واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد، واعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة،…،فينبغي أن تستصحب هذا الاعتقاد في حقهم ولا تسيء الظن بهم كما يحكي عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن)). ومن جهة أخرى ينصح الغزالي الخليفة والسلطان أن يضع نصب عينيه الإطلاع على نصوص وأقوال الأنبياء السابقين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من أمثال موسى بن عمران وعيسى بن مريم وغيرهم، وملوك الفرس وحكماء اليونان، كذلك ينصح الغزالي الخليفة أو السلطان أن يكون متعطشاً إلى نصيحة علماء الدين ومتعظاً بمواعظ الخلفاء الراشدين ومتصفحاً في مواعظ مشايخ الدين للأمراء المنقرضين.
وفي تقويم جد مهم لروزنثال حول اجتهاد فقهي سياسي للغزالي، في مسألة تنصيب أو اختيار الخليفة، يستعمل روزنثال اللفظة الأجنبية (Cynicism)، والتي تعني بالعربية عدة معاني منها المذهب الكلبي، ذلك المذهب الذي يرى إقامة تعارض بين القانون أو الناموس والطبيعة التي كان هؤلاء الفلاسفة يدعون الرجوع إليها، مما يعني أن هذه اللفظة تعطي معنىً إزدرائياً قبيحاً في الغالب، أي ازدراء واحتقار الموافقات والمواضعات الاجتماعية، ومواضعات الرأي العام، وحتى الأخلاق المسَلم بها عموماً سواء في الأعمال أم في التعبير عن الآراء.
وإذا ما عدنا إلى نص الغزالي الذي استنتج منه روزنثال هذا الحكم على فكر الغزالي السياسي وانه فكر براغماتي عملي يتحرك ضمن معطيات الواقع والقوى المتحكمة فيه، مع مواربة مفضوحة لحكام عصره من السلاجقة ذوي النفوذ الفعلي والسلطان القوي. وغض الطرف عن رأي الجماعة من العلماء والفقهاء وأهل الحل والعقد في زمانهم في اختيار الخليفة، نجد هذا النص مؤشر في كتابه إحياء علوم الدين (ج2، ص،124) و(كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، ص215)، يقول الغزالي بصدد ذلك ما نصه (( لربما اجتمعت جماعة في ذلك الوقت في صفة القرشية فمن نختار منهم؟؟،فيجيب قائلاً: لا بد من وجود خاصية أخرى تميزه، وهي: يكون توليه أو التفويض له بالولاية من غيره، فإنما يتعين للإمامة مهما وجدت التولية في حقه على الخصوص من دون غيره، ويكون هذا التعيين للخليفة من طرائق ثلاثة هي: إما من تنصيص من جهة النبي، إما التنصيص من جهة إمام العصر،…، وإما التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة)). وهنا يعطي الغزالي لصاحب الشوكة والسلطان الفعلي الذي هو ليس بنبي ولا إمام مطاع، بل هو سلطان وحاكم فعلي هو السلطان السلجوقي هذه المزية في تعيين الخليفة، بقوله((وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخص واحد مرموق في نفسه مرزوق بالمتابعة مسؤول على الكافة، ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره، لأن المقصود أن يجتمع شتات الآراء لشخص مطاع وقد صار هذا الإمام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً)).
ومع ذلك كله، يبدو الغزالي بحسب قراءة روزنثال لنصه السالف أعلاه ((متخوفاً جداً من الغياب المطلق للشروط الضرورية للخليفة المتمتع بفعالية تامة، وأن الإمامة في عصره باتت رياءً حقيقياً، وهذا الشيء يعترف به في كتابه إحياء علوم الدين، عندما يصرح أن الخليفة العباسي هو الممثل الشرعي لمنصب الإمامة وفقاً للعقد، وبذلك يتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وإن كانت وظيفة الحكومة يقوم بها السلاطين الذين يقدمون الولاء له، فالحكومة بيد أولئك المسندون بالقوة العسكرية،..، فطالما أن سلطة الخليفة معترف بها، فالحكومة شرعية، وإذا ما أعلن أن هذه الحكومة القائمة على القوة العسكرية المتوحشة هي حكومة غير شرعية، فإن البديل هو الفوضى وانعدام القانون،….، عندها لا يكون هناك مجالاً من خلع السلطان المستبد، إذّ أنه يكون من الصعب جداً خلعه حينما يكون الجيش بيده، وستكون النتيجة الوحيدة هي الفوضى وعدم الاستقرار، لذا يجب الحفاظ على النظام ومصلحة الدولة)).
ومن جهتي أرى أن نص الغزالي يبرر وجود حاكم مستبد طاغي مع وجود خليفة ضعيف، لأن في وجوده يتحقق الأمن و ويقام المعاش وغير ذلك من مصالح الناس، إذ إن فقدان النظام يؤدي إلى الفوضى، ولهذا فوجود هكذا حاكم خير من وجود الفوضى بأي شكل من الأشكال.
فضلاً عن ذلك كله، يرى الغزالي أن افتقار لخليفة للاجتهاد لا يوجب خلعه ويجب تركه في السلطة وتقديم الفروض والطاعة له، ولذلك نجد بهذه المناسبة الغزالي يتغافل عن عمد الإشارة إلى الآية 62، من سورة النساء، بقوله تعالى: (( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)). ويستبدل محلها أحاديث نبوية شريفة تدعوا إلى طاعة الخليفة وأولي الأمر الذين اغتصبوا السلطة ويتمتعون بسيطرة فعالة على الحكم.

خاتمة- مما تقدم، نستطيع القول، أن المستشرق إرفن روزنثال قد قدم قراءة تاريخية نصية لفكر الغزالي السياسي، وأعطى أحكاماً علمية ذات قيمة في قراءته لنصوص مؤلفات الغزالي التي عالجت موضوع الخلافة والإمامة وشكل الحكومة وعلاقة الخليفة بالسلطان، وربط ذلك كله بسياق تاريخ إنتاج النص والعوامل الفاعلة والمؤثرة فيه من حيث اختيار الألفاظ والمصطلحات والأحكام المستندة إلى فكر الغزالي نفسه. وأظن أن روزنثال لم يتعامل مع الغزالي بحسب ما وجدت من أحكامه تعاملاً أيدلوجياً مؤطراً بأحكام مسبقة عن أصالة فكر الغزالي في هذا الجانب وربطه بمؤثرات يونانية أو فارسية او غيرها، فلقد ظهر الغزالي عنده فقيهاً إسلامياً أصيلاً يتحرك ضمن نطاق الشريعة الإسلامية مع إبداع فكري خاص به فرضته عليه الظروف السياسية والاجتماعية مع عمق في تفكيره. وغن كانت مرجعيات الغزالي في غير هذا الجانب فيها حضوراً لفكر وفلسفة الآخر.