22 ديسمبر، 2024 9:07 م

الفقر في العراق ما مر عام والعراق ليس فيه جوع

الفقر في العراق ما مر عام والعراق ليس فيه جوع

أن جزء من عنوان مقالي هو أستعارة من مقطع لقصيدة أنشودة المطر للشاعر الكبير الراحل (بدر شاكر السياب) والتي يقول فيها ( كل عام حين يعشب الثرى نجوع، ما مر عام والعراق ليس فيه جوع، مطر، مطر ، مطر). الى هنا أنتهى الأقتباس من قصيدة الشاعر السياب، ولندخل الى المقال. لا شك أن عنوان المقال هو صادم لدى القارىء!، حيث لا يعقل أن يجوع العراقيين أهل أرض الرافدين التي طالما كانت عنوان للخير والعطاء والنماء منذ فجر التاريخ، الأرض التي حباها الله بكل النعم والخيرات وجعل ثلثي خزائنه في هذه الأرض التي ومع الأسف، أصبح أنين جياعها وفقرائها، ومشاهد وصور جوعهم وفقرهم يسمعها ويراها العالم كله! وهم يبحثون في المزابل ومكبات النفايات ليجدوا بقايا من طعام يسكتوا به قرقرة بطونهم من شدة الجوع!. من الطبيعي هذا يثير العجب والتساؤل!، والذي بثير الغرابة أكثر في موضوع فقر و جوع أهل العراق هو أن أستخراج النفط بالعراق بدأ عام 1927! (في مدينة كركوك من حقول بابا كركر)، النفط الذي لازال يمثل السلعة الأكثر غلاء وأهمية في العالم، والذي يحرك كل أقتصادياتها، حيث يمتلك العراق ثاني أكبر أحتياطي بالعالم من النفط!. وقد أعدت (وزارة التخطيط دراسة تفصيلية عن أثر جائحة كورونا على الفقر والفئات الهشة في المجتمع العراقي، والدراسة كانت بالتعاون مع البنك الدولي، ومنظمة اليونسيف وفريق مبادرة أوكسفورد للفقر والتنمية البشرية، ومستشارين من صندوق الأمم المتحدة للسكان. المؤسف أن الدراسة أظهرت أن عدد الفقراء في العراق بلغ (400/11) أحد عشر مليون وأربعمائة ألف!، أي أن نسبة الفقر في العراق وصلت الى 31% في حين كانت النسبة 20% عام 2018)، ولا بد هنا من التوضيح بأن القياس الأقتصادي العالمي للفقر هو أن (يكون معدل دخل الفرد أقل من دولارين في اليوم). وفي حقيقة الأمر أن الدراسة وما ورد فيها من أرقام تعد خطيرة، ولكن الأخطر في الأمر أن مؤشر الفقر مستمر بالأنحدار!، حيث لا توجد أية معالجات لا على مستوى السياسة ولا على مستوى الأقتصاد. ومن حقنا أن نستغرب عندما نسمع ونقرأ هذه الأرقام عن أعداد الفقراء بالعراق وهو البلد النفطي الذي يمتلك ثاني أكبر أحتياطي عالمي في مخزون النفط كما ذكرت قبل قليل، وبأن النفط لا زال السلعة الأقتصادية الأولى في العالم، الذي لم يجد العالم بديلا عنه لحد الآن!، والذي لولاه لتوقفت عجلات المصانع والمعامل في العالم عن الدوران، ولأصيبت الدول الصناعية الكبرى بالشلل التام!. ومن الطبيعي والمفروض بنفس الوقت، أن الدول النفطية بالعالم يحظى سكانها بالعيش الرغيد وبتوفير كل متطلبات الحياة الكريمة، ناهيك عن الأعمار والبناء وما يرافقه من تقدم وتحضر كما نرى ذلك في دول الخليج وما هي عليه الآن. ولكن هذا الطبيعي والمفروض لم يكن كذلك!، لدى الكثير من البلدان النفطية مثل العراق والجزائر وليبيا وكذلك في بعض الدول الأفريقية، حيث لم ترتق حياة هذه الشعوب بما يتناسب وكونهم يعيشون في بلدان نفطية فعانوا ولا زالوا يعانون من أزمات اقتصادية وأجتماعية كثيرة!. فأذا كنا في الألفية الثانية وبعد كل هذا التطور الهائل الذي غزى العالم بالنكنلوجيا الحديثة والعراق فيه قرابة 12 مليون فقير، فكيف كان حال العراق عام 1927؟، وكيف كانت حياة العراقيين قبل النفط؟ رغم فارق عدد السكان في الفترتين. يبدوا ومن خلال ما قرأنا وما كتب عن العراق وتاريخه الحديث وعن الأوضاع السياسية والأجتماعية فيه وما عكسته الحياة الأدبية والشعرية والفنية ومنها قصيدة الشاعر السياب ( المطر) التي أقتبسنا منها عنوان المقال وكذلك أشعار امير الشعر الشعبي ( الملا عبود الكرخي) ناهيك عن الأفلام السينمائية والمسرحيات، والتي غالبيتها أن لم أقل جميعها عكست الواقع المرير وصور الفقر والبؤس والجوع الذي عاشه العراقيين حيث لم يتذوقوا طعم العيش الرغيد والحياة الكريمة التي يفترض أن يعيشوها، على مر الحكومات التي توالت على حكم العراق من ملكية الى جمهورية، لكل أعتبارات الخير التي وهبها الله وأعطاها لهذه الأرض المباركة!.، أستثناء من بعض شرائح المجتمع وطبقاته التي عاشت بشيء من النعيم وبشيء من التمدن والتحضر، حيث ظلت صور الفقر والبؤس والتخلف واضحة ملموسة في صورة المشهد العراقي بأكمله، حتى مع فترة نهاية السبعينات من القرن الماضي الفترة التي أعدها كل الخبراء والمتابعين بأنها الفترة الذهبية بالعراق الحديث!. فلو عدنا الى قصيدة السياب ( المطر) والتي كتبها عام 1953في الكويت ونشرها في مجلة الأداب البروتية عام 1954 وبعدها ظهرت كديوان شعر عام 1960، وتوقفنا قليلا بالسؤال، ألم يكن العراق بلدا نفطيا في ذلك الوقت؟، ألم يكن بلد ال30 مليون نخلة؟ ألم تكن أرضه زراعية؟ ألم يكن فيه نهري دجلة والفرات؟ اذا لماذا هذا الجوع الذي تكلم عنه الشاعر؟ ولماذا لم تظهر أنعكاسات كل هذه النعم على وجوه العراقيين وعلى مجمل حياتهم؟، ولماذا تحولت نعمة النفط وباقي النعم الأخرى الى نقمة على العراقيين؟، وأذا (أستثنينا الفترة من بعد الأحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ولحد الآن والتي تعتبر الفترة الأكثر ظلامية والتي لم يعيشها العراق منذ ولادته!)، فهل يعقل أن كل الحكومات التي توالت على حكم العراق منذ تأسيسه عام 1921 من ملكية الى جمهورية ولحد قبل أحتلاله في 2003 كلها تقصدت على تجويع العراقيين وأذلالهم؟، الجواب كلا طبعا، حيث أن كل المؤرخين والكتاب والباحثين يتفقون على وطنية تلك الحكومات وأخلاص حكامها للعراق، على الرغم من خلافاتهم وصراعاتهم على السلطة؟!. وعندما نتكلم عن الجوع لا نقصد جوع البطن والحاجة الى رغيف الخبز فقط بل نقصد الى الحاجة الى باقي متطلبات الحياة الضرورية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وغيرها. من المعروف أن الأنكليز هم من أسسوا الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وكانت بريطانيا تمتلك كل الدراسات والخرائط التي تؤكد أمتلاك العراق على مخزون هائل من النفط لربما لا ينضب حتى تقوم الساعة!؟، فلنتصور كم كان العراق غاليا ومهما لدى بريطانيا! بسبب ما يمتلكه من ثروة النفط وغيرها من الثروات المعدنبة، لا سيما وأن بريطانيا هي من كانت تقود الثورة الصناعية بالعالم. ولكن يبقى السؤال المثير للجدل قائما وملحا، هو لماذا لم تبني بريطانيا العراق وتحافظ عليه مثلما حافظت على باقي دول الخليج ورعتها وطورتها؟، علما بأن هذه الدول لا تمتلك أهمية ستراتيجية جغرافيا وبحريا مثل العراق!، كما أن هذه الدول بكل ما تملكه من مخزون نفطي لا يشكل ثلث الموجود النفطي العراقي أو حتى أقل من ذلك بكثير؟ ثم لماذا ظل العراق متأخرا بالمقارنة مع دول الجوار وباقي الدول النفطية بالمنطقة؟ في حين كان العراق أولى بالتقدم والرقي والتحضر، لأنه يحمل تاريخ بالحضارة والرقي منذ أكثر من 7000 سنة؟!. نعود لنؤكد أنه وحتى في ستينات وسبعينات القرن الماضي الفترة التي نطلق عليها فترة الزمن الجميل كان هناك فقر وبؤس وشقاء لفئات من الشعب!، وحتى مظاهر التقدم والأزدهار والرقي والتحضر التي كنا فيها لم تكن تتناسب مع كوننا بلد نفطي، يفترض أن يكون حال المواطن فيه أحسن بكثير مما هو عليه في تلك الفترة!. فقد ظلت محافظات وسط وجنوب العراق بائسة ومنهكة لم تمتد أليها يد الأعمار والتقدم ، وكان ولا زال اهل قرى واقضية تلك المحافظات، يعيشون في أكواخ ويشربون من ماء الأنهار ولم يعرفوا الكهرباء!، وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي، لم بعرفوا شيء أسمه التلفزيون الملون! ( لازال اهالي البصرة لم يعرفوا طعم الماء الحلو العذب لحد الان)!. أن الفقر أخطر الأفات كلها فهو مصدر الدمار والهلاك لكل أمة، وتحت عباءة الفقر أرتكبت وترتكب كل الجرائم والموبقات والمحرمات ، ولو تحريت عن كل جريمة تحدث لوجدت أن الكثير منها سببه الفقر والحاجة!. وقد قيل الكثير عن الفقر على لسان الفقهاء والحكماء والعلماء على مر التاريخ والزمان، ولكن يبقى قول الأمام علي (ع) عن الفقر خالدا يعبر فيه عن عمق الخوف من خطر الفقر عندما قال ( لو كان الفقر رجلا لقتلته)، فكم كان يرى هذا الرجل الحكيم الشجاع، بأن الفقر هو عنوان ومصدر لكل شر فتمنى أن يقتله ويخلص الناس منه!. ولكن ظل الفقر جاثما على العراقيين ومزروعا في أرضهم رغم كل الخير الذي فيها!، ومات الأمام علي بحسرة أن يقتل هذا الشر اللعين الذي لم يقدر عليه!. أن واحدة من أخطر توابع الفقرهو أنه يولد الكفر ولهذا قيل (أذا ذهب الفقر الى بلد قال له الكفر خذني معك)!. والكفر المقصود هنا هو ضعف الأيمان، ولكن أستمرار الفقر وضعف الأيمان لربما سيؤدي بالتالي الى الألحاد والشرك بالله!. وفقراء العراق عموما اليوم، باتوا يكفرون بكل القيم والمباديء الأنسانية وحتى السماوية!، بسبب نفاذ صبرهم على تحمل الضيم والفقر والجوع والحاجة!، وهم لا يرون أي بصيص وأمل في أنتصار الحق على الباطل، ولا بأنتصار المظلومين وأرجاع حقوقهم، ولا في القضاء على الفساد والفاسدين، ولا بتقديم القتلة للقضاء!. يبدوا أن موضوع الفقر في الحياة هو موضوع ازلي رباني!، فحتى في زمن دولة العدل الألهي التي أسسها النبي العظيم محمد (ص)، كان هناك فقر وجوع، وتباين في العيش بين هذا وذاك!، وأستمر وجود هذا التباين ووجود الآفة على طول الخلافة الراشدية!، وكم من قصة حدثنا عنها المؤرخين وكتاب السير والاحاديث التي تكلمت وتحدثت عن ذلك!. أخيرا نقول: ما دمنا نتكلم عن الفقر والجوع وأخطارهم ومخاطرهم على بنيان الأنسان وبناء المجتمع، ومما لا شك فيه أن رئيس الحكومة يعرف ذلك تماما، لذا أدعوه جادا أن يركز ويصب جل أهتمامه على وزارة التجارة؟!، والتي من خلال هذه الوزارة بمقدوره أن يهزم الجوع ويقضي عليه، ويمحوا منظر الجياع والفقراء الذين يبحثون في القمامات ومكبات الأزبال عن بقايا طعام يقيهم غائلة الجوع لو أراد دولة الرئيس ذلك حقا!. وأقول له وأكرر طلبي منه أن يولي وزارة التجارة أهتماما خاصا وأستثنائيا وأن يتابع بنفسه كل عقود شراء الحصة التموينية ويحاول أن يعيد مفردات الحصة التموينية الى 7 أو 8 مفردات وأهمها (الطحين والتمن والزيت)، فهل في ذلك صعوبة؟ وزارة واحدة ان تابعت عملها بنفسك فأنك ستقضي على الجوع وعلى الفقر في العراق!، وأن قضائك على الفقر وعلى الجوع في العراق لا يقل عن جهودك في القضاء على الفساد والفاسدين، رغم التحديات الكبيرة والصعبة التي تواجهك!.