18 ديسمبر، 2024 6:17 م

الفطرة والبصيرة

الفطرة والبصيرة

لكلٍ منا قناعاته في هذه الحياة، تلك القناعات التي تحكمها النشئة والتجارب والمشاعر التي تراكمت عبر سنوات عمرنا القصيرة مهما بدت في أعيننا طويلة، وكلٌ منا يضع عواطفه في مكانٍ خاص بداخله لا يطلع عليه أحداً، ويتعامل مع الآخرين بناءاً على مقدار هذه العاطفة ومكانتها في حياته وتقاطعها مع تجربته، والتي قد تحد من قدرته في الكثير من الأحيان عن رؤية ما هو أبعد منها، ربما بدافع الخوف من تكرار ألمٍ سلبه أجمل أيام عمره..

وكنتيجةٍ للكثير من المشكلات التي أصابت العلاقات الإنسانية وحتى العائلية منها، بات العديد من الأشخاص يتوجهون بعاطفتهم وقلوبهم صوب الطبيعة وعالم الحيوان بحثاً عن الراحة والأمان والرفقة التي لا خوف فيها من حكمٍ مسبق أو غدرٍ محتمل أو هجرٍ يترافق مع انتهاء مصلحةٍ بعينها، أو غيرةٍ من نجاح أو إساءة فهم تترك جرحاً لا يندمل، وبعيداً عن مناقشة صواب هذا الخيار من عدمه فإن وفاء الطبيعة وأبنائها هو أمر صحيح، لكن القلب الذي يدخل إلى عالمهم كمجرد ردة فعل على مشكلاته الحياتية، دون أن يفهم حقيقة وقدسية المكان الذي يدخل اليه يصنع حاجزاً يحرمه من التلاقي معهم والإستماع إلى لغتهم التي لا يشاركونها إلا مع من يصدقهم الشعور ويؤمن بالمحبة بينه وبينهم، وبأن العواطف التي يعيشها معهم هي حالةٌ فريدة من النقاء الذي لا يشبه شيئاً آخر وليس بديلاً مؤقتاً لإنسان أياً كانت قيمته، لأن لكل كائن عطاءاً مميزاً فالإنسان يعطي جزءاً من ما يملكه إذا أحب فيما تعطيه الطبيعة وأبنائها كل ما تملك، وهي حقائق يرفض الناس التسليم بها لأنها غارقة في استنساخ غيرها واستنساخ الحيوان لمنافعها..

وهنا تكون المقارنة ظالمة خاصةً عندما يحكي البعض من باب التندر الذي يعكس ظلاماً في البصر والبصيرة عن (محدودية) عقل الحيوان، وهو ما يدفعنا بدورنا للتساؤل.. إذا كان سلوك هذه الكائنات بطبيعتها (المحدودة) هكذا فماذا لو امتلكت عقل الإنسان أو عقلاً أذكى منه؟ ولربما يقودنا هذا السؤال إلى حقيقة قد تعجب البعض وقد يرفضها الكثيرون، لكن نقاء الفطرة وسلامتها قد يكون أفضل بكثير من عقلٍ مراوغ يعرف الحق فينكره ويرى الحقيقة فيدهسها لأنها لا توافق رغباته، واليوم نرى كثيراً من إشارات الإنذار التي يطلقها الحيوان بسلوكه أو من خلال المرض الذي بات ينهشه بكثرة أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخ الكون، أو من خلال أماكن تواجده وتغير خصائصه وظهور اختلال في طريقة تعاطيه مع الكائنات الأخرى وإصابته بأعراض التوحد التي ظهرت على البشر بسبب رغبتنا التوسعية والإستثمارية على حسابه ودون إقامة وزن لتعدينا على طعامه ومسكنه كما سبق ذلك مع الإنسان..

ومع تنوع القصص حول العالم لأشخاصٍ اختاروا بملأ إرادتهم صحبة الحيوان والطبيعة بعيداً عن الصورة المستهلكة التي يتداولها أصحاب التفكير السطحي بأن هذا السلوك هو للطبقات المرفهة، نجد أن هذا السلوك هو سلوك إنساني جداً ويشبه الطريقة التي خلق عليها الكون وشوهناها لمصلحتنا، والتي انعكست بالصحة والراحة والسلامة النفسية على أصحابها وعن قناعة تامة، والذين اختبروا ولا زالوا يختبرون بشكلٍ يومي الفارق في العلاقة التي تجمعهم بالبشر عن تلك التي تجمعهم بأبناء الطبيعة، حيث لا مجال للمجاملات وتتخذ العلاقات شكلاً من المحبة والرحمة والعاطفة والألفة التي يستطيع الإنسان أن يقدمها إن شعر برغبته في ذلك، ولعل الكثير من اللحظات المؤثرة التي سكنت وجدان أصحابها وصنعت علامةً فارقة في حياتها كانت بسبب هذه الكائنات التي لم تقم بأي شيءٍ سوى أنها كانت تتصرف على فطرتها فإستشعرتها البصيرة التي لا يحجبها شيء..