19 ديسمبر، 2024 3:43 ص

الفضائية العراقية : برامج غير مناسبة وأخرى هامشية

الفضائية العراقية : برامج غير مناسبة وأخرى هامشية

ليعلم العاملون في الفضائية العراقية أنها تمثل شعبا عرف بتاريخه الثقافي والعلمي , ومن هذا المنطلق يجب أن تكون عناوين المواد والبرامج المنتجة مدروسة بما يناسب الثقل المعرفي وألآرث ألآجتماعي المتنوع الذي يزخر به العراق بأعتباره أقدم من شهد نشوء الحكومة  وظهور الحضارة , وسومر , وأشور , وبابل التي يقال أنه تبلبلت فيها ألآلسن , وأنزل فيها الملكان هاروت وماروت  هي من الشواهد على ذلك .

على ضوء ذلك لايجوز التساهل في طرح العناوين ألآرتجالية مثل : برنامج ” شلون الصحة ” والكل يعرف مقدار التدهورالذي وصل اليه المستوى الطبي في العراق من تدهور أخلاقي , وتلاعب بمصير المريض لصالح أمزجة مريضة ونفوس معقدة جعلت من مهنة الطب ألآنسانية مهنة تجارية أرخص من كل المهن التجارية التي لايحترم ممارسوها قواعد المهنة ولا ذوق ومشاعر الناس حتى أصبحت الهند وأيران وتركيا وألآردن مكانا لآستشفاء المرضى العراقيين , ومع ذلك فبرنامج ” شلون الصحة ” الذي تبثه الفضائية العراقية وتنشر له أعلانات دعاية في شوارع بغداد وكأننا أصبحنا محجة مرضى الجوار والعالم ونحن ليس كذلك , ثم أن برنامجا طبيا يبث على الهواء فضائيا ويشاهده الناس في أكثر من مكان ألآ يدري القائمون عليه أن مريضنا يسرق في عيادة ألآطباء الخاصة , ويسرق في المختبر الذي لايقوم بعض أصحابه بفحص عينات التحليل وأنما يكتفون بسحب نموذج الدم ثم يكتبون النتيجة دون فحصها , فالتحليل الذي يخص ألآيدز مثلا يستغرق ” 72″ ساعة ومن يسلمه للمريض بعشر دقائق يعني أنه لم يكمل فحصه وتحليله كما يجب , وفي الصيدلية التي يتعاقد بعض أصحابها مع بعض ألآطباء وتباع ألآدوية خصوصا أدوية مرضى السرطان وأدوية من يعانون من العقم بأسعار خيالية , فمثلا يباع أمبول لذوي العقم بسعر ” 180 ” ألف دينار بينما سعرها الحقيقي هو ” 27″ ألف دينار , ويباع المريض في عيادات ألآشعة والسونار , مثلما يباع في المستشفيات الخاصة , وألآكرامية أصبحت عادة وثقافة سيئة , أما أخطاء العمليات الجراحية فأصبحت عيبا وعارا على الطب العراقي , وبرنامج ” شلون الصحة ” يستعرض شكليات لاعلاقة لها بمايجري في المستشفى والمستوصف والعيادة الخاصة التي تصادر فيها حقوق المريض وكرامته وكرامة مهنة الطب عندما أصبح البعض يسمح لنفسه تجميع مايزيد على ” 100 ” كارت معاينة هي في الحقيقة وهمية لآنهم يدخلون المرضى ” خمسة خمسة ” وهو أمر غريب لايجري حتى في المعاينات البيطرية ؟

هذا بأختصار مثال على البرامج الهامشية التي تبث في الفضائية العراقية وهي مما ينطبق عليها قول الشاعر :-

 وقصيدة قد قلتها ليقال من ذا قالها .. تأتي الملوك غريبة ليقال من ذا قالها

أما البرامج غير المناسبة وهي من البرامج المحسوبة على الثقافة وهذه يمثلها برنامج ” دولة ألآنسان ” والمتبادر للذهن على قاعدة ألآصوليين في دراسة المعاني وألآلفاظ التي يشتركون فيها مع اللغويين , أن دولة ألآنسان يراد بها كيف ومتى تكون الدولة دولة أنسان تحترم فيها الحقوق ألآنسانية وتراعى فيها الحرمات وتحفظ الكرامات , ولكن مقدم البرنامج يبدو أنه يقصد بها ” الفلسفة ” و ” الثقافة ” ولو أستشار أهل ألآختصاص واالفكر لآشاروا عليه أن يكون عنوان البرنامج ” فكر ألآنسان ” وهو أكثر مطابقة من دولة ألآنسان , لآن الدولة حالة قانونية , والفكر حالة معرفية , والفكر كما يقول فيلسوف القرن العشرين ورائد نظرية المعرفة ومصحح مصطلحها ألآستكشافي في كتابه ” ألآسس المنطقية للآستقراء ” من خلال نظريته الشهيرة المجددة ” نظرية التوالد الذاتي ” ذلك هو الشهيد محمد باقر الصدر الذي يعرف الفكر : بأنه نشاط أيجابي فعال للنفس ” .

وما دام برنامج ” دولة ألآنسان ” الذي بينا عدم مناسبة العنوان للبحث الثقافي , لذلك كان من المناسب أن يغير العنوان حتى يجد نفسه في فضاء ثقافي رحب لايحرج ضيوفه الذين لم يتم أختيارهم معرفيا , وحتى لايقحم مقدم البرنامج نفسه في متاهات مغلقة لعدم تطابق مفاتيح الكلام مع أقفال المعرفة التي تستعصي على غير طلابها وروادها الذين يقولون عن ” العقل ” وضع الشيئ في محله ” ويقولون عن العلم ” ألآنتقال من المجهول للمعلوم ” ويعطونه تعريفا فلسفيا عندما يقولون ” هو أنتقاش صورة الشيئ في الذهن ” بناء على فن الملاحظة والتجربة التي قال عنها ألآمام علي “ع” في التجارب علم مستأنف ” مستفيدا من ألآشارة القرأنية ” قل أنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة أن هو ألآ رسول كريم .. “

ومن العسر الثقافي الذي شاهدناه في بعض مشاهد برنامج ” دولة ألآنسان ” عندما يسأل مقدم البرنامج سؤالا لضيفه وهو عميد كلية , وعميد الكلية في الدول المتقدمة هو عبارة عن عقل يختزن علوم أختصاصه بما يجعله متمكنا من ألآفاضة , شأنه في ذلك شأن تعريف المثقف في دائرة المعارف ألآسلامية والذي قدم مقاربته الفارابي : ” المثقف هو الذي يعرف شيئا عن كل شيئ , وكل شيئ عن شيئ ” ولكن العميد ضيف برنامج ” دولة ألآنسان ” لم تسعفه ذاكرته على تقديم تعريف ناجز للفلسفة , فراح يقدم أوصافا مثل : الفيلسوف طبيب الحضارة , وهو تعريف غير صحيح , فالحكيم هو طبيب الحضارة وليس الفيلسوف , فالفيلسوف صاحب رأي لايسلم من الهوى , بينما ” الحكيم ” صاحب رأي لايخالطه الهوى , وأن خالطه لايعود حكيما , فالحكيم هو طبيب الحضارة ” وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب ” ومن هنا نعرف لماذا كان ألآصطفاء وألآجتباء للحكيم دون غيره , ولماذا أصبح علم الموهبة ” العلم اللدني ” ممنوحا كهبة من الله لآهل الحكمة وهم ألآ نبياء وألآوصياء لآنهم ألآجدر على أداء ألآمانة , فكان منهم صاحب الخلق العظيم وهو الرحمة للناس وهو نبينا محمد “ص” ومنهم ” السيد ” و ” الحصور ” وهو داود عليه السلام ,  ومنهم الحليم ألآواه وهو أبراهيم عليه السلام .

فالعميد الذي لم يستحضر تعريف الفلسفة هو أختيار غير مناسب من قبل مقدم البرنامج كما كان عنوان البرنامج غير مناسب أصطلاحا , وحتى تتم الفائدة للقراء فأن تعريف الفلسفة هو ” نظم العالم نظما عقليا ” والفلسفة جهد معرفي يأتي بعد التجربة والملاحظة وبعد أستنفاد البرهان , تتقدم الفلسفة لتعطي نتاجها , وبعدها يأتي العرفان وهو جهد وجداني يمتاز به الحكيم وفي مقدمة أهل الحكمة   المعصومين الذين يختص بهم ألآصطفاء وألآجتباء , والعرفان للمعصوم عمل ولغير المعصوم أمل , ومن حق المثقف والفيلسوف أن يأمل في أن يكون عارفا أذا أجاد الصنعة وأتقن تذهيب النفس ” ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين ” .

ولذلك لايكون العرفاني والحكيم حزبيا , لآن الحزبية الوضعية رداءا ضيقا وجسم الحكيم والعرفاني عملاقا , لآن الفكر جوهر حدوده الكون بمفهوم تحدب الزمان والمكان كما في النظرية النسبية لآنشتاين , وكما في الطفرات ألآستقرائية التي دمجت بين نظرية ألآحتمال والعلم ألآجمالي التي صاغها المفكر محمد باقر الصدر في نظرية التوالد الذاتي , ويظل مفهوم حزب الله هم الغالبون مفهوما يختزن معاني الروح وسيولة الجواهر في صورة العقل والنفس التي هي شاشة التشكيل الجمالي التي ترتسم فيها حروف اللغة وأصواتها , وهي وسائل التأثير التي تنتقل عبر ألآثير , وألآثير هو بحر وفضاء كوني تسبح فيه ألآصوات كما تحلق الطيور في جو السماء وهو ما تحت الغلاف الجوي الذي تنتقل فيه ألآصوات , بينما لاتنتقل ألآصوات فوق القمر وبقية الكواكب والمجرات ولذلك لايمكن للآنسان أن يعيش في تلك ألآجرام لآنه بحاجة للصوت والكلام والتفاهم , ولذلك قال تعالى ” وألآرض وضعها للآنام ” والفضائيات ومنها الفضائية العراقية وجميعها تعتمد على ألآثير الذي يتحرك فيه عالم ألآنترنيت , فألآلتزام العلمي والخلق المعرفي يتطلب من يعمل في الحقل ألآعلامي الثقافي أن يجعل من التواصل مع الناس مبنيا على حس معرفي يحترم قوانين ألآثير التي هي ملك لله ” .. ثم أستوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللآرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ” ومن هو من سكان ألآرض الكوكب ألآزرق عليه أن يحترم جواب السماء التي تظله وألآرض التي تقله , وذلك هو العقل والثقافة وتلك هي الفلسفة ومعها العرفان , ومن هذه ثقافته لايقبل العنوان غير المناسب ولا يقبل العنوان الهامشي ” وجاهدوا في الله حق جهاده ” ” وأتقوا الله حق تقاته ” ” وأتقوا الله ما أستطعتم ” ” وخلقنا ألآنسان في كبد ” يا أيها ألآنسان أنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه ” “و قولوا للناس حسنا ” و ” الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ”  ” ولاتقف ماليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا “

وحوارات ولقاءات وبرامج الفضائية العراقية ينقصها مرجعية ما أشرنا اليه وهو نقص لاتنفرد به الفضائية العراقية وحدها وأنما يشاركها بنسب مختلفة أغلب من يستثمرون ألآثير والفضاء ولايحترمون مرجعيته.

أحدث المقالات

أحدث المقالات