23 ديسمبر، 2024 5:31 م

الفضاءات النصية والمعنى الأفتراضي

الفضاءات النصية والمعنى الأفتراضي

 يختلف الشعر عن باقي الاجناس الابداعية بأن له خاصية مميزة ممكن ان تعطيه صفة أو ميزة مفارقة، إذ انه يتخذ من اللغة فضاءً توليدياُ للمعاني والدلالات في مدارات ايحائية منفتحة، بيد انه يتمرد عليها رغم خضوعه لسلطة وهيمنة قانونها النحوي الصارم، وهو الهيكل العام للغة، إذ يتمرد على تشكلاتها التعبيرية والخطابية، عندما يفتح مديات ذلك الخطاب اللغوي ويلون مساحاته بفضاءات جديدة، ويضيف صيغ أخرى الى الصيغ الخطابية المعروفة والمعتاد عليها ضمن اللغة المتداولة شفاهياً او كتابياً، ويجترح له قاموساً خاصاً، سرعان ما تتسرب تراكيبه الى اللغة الأدبية، وتصبح ايقونات علامية تتحرك في مدار معين وثابت خارج عن مدارها الأصلي الذي وجدت فيه أصلاً ، لذلك فلغة الشعر تمتاز بأنها لغة مراوغة غير منحازة الى جهة المعنى المباشر أو تحاول ان تقسر نفسها على مقاييس الفهم السائد.
    (ان أزمة الكتابة الشعرية الجديدة تتمحوراساساً في طريقة توجيه اللغة وتصريف إمكاناتها، كي تتكشف عن طاقات جوهرية عبقرية لا تظهر إلا بواسطتها وعبر تجليات خطابها اللغوي)1 لذلك كان الشاعر النثري يحاول بطرق شتى خلق اسلوبية بنائية متفردة، بأستحداث مديات تأويلية وبنائية جديدة، يسعى من خلالها لضخ طاقة حيوية وحركية داخل اطار النثر، أو الاقتراب ربما من قمم الشعر كرؤية وبناء ولعبة كونية، تتماس مع روح الانسان وكيانه، والكون الذي يلفه بكل تماهياته الذاتية والموضوعية، ولكنه مع ذلك يرفض دور الشاهد والاعلان والبروبغندا، بل هو فضاء حر، يتعامل باللغة كأداة خلق وبناء دون النظر اليها فقط كمنظومة لها حدود مقدسة تلظم ما تنتجه بسياقات انشائية مقننة ومحروسة بهيكلية النحو والبلاغة.
     هي لغة تتلون بألوان متجددة وتشتبك مع احالات فلسفية ورؤيوية ترتبط بالكون ونواميسه، هي لغة نبوئية، لغة عارفة – ان جازت لي التسمية – لأنها تقترب في الكثير من الأحيان من العرفان، عندما تنساب في لحظات الوجد والانثيال الخلاق لتقترب من سر التوحد بالكون، لتخرج من زيها القاموسي والاصطلاحي لتتلبس لبوساً علامياً (سيميائياً)، لتتشكل في مدار الفهم الكوني المحرك لكينونة المفاهيم.
      رؤيتي هذه عن شعرية سلمان داود محمد ستخالف أطروحة اخرى ترى ان شعرية القصيدة تكمن في اللغة وتراكيبها الخطية من خلال اعتبارها أداة تشكيل المعنى، ربما اعتماداً على آراء ياكوبسن وخاصة في كتابه (اللسانيات والشعرية)، فنصوص سلمان داود محمد تكسر تلك التوافقية التي بنتها اللغة واعتمدتها أداة هيمنة على المنطوق/ المكتوب من خلال تشكيل مديات افتراضية تنحو بتلك اللغة الى فصل متون العلاقات التركيبية التي اعتمدتها الخطابات اللغوية السابقة، والتي ربما تجسدت في كثير من الأحيان في القصيدة التقليدية، وان بدت اشراقاتها منذ زمن طويل في التراكيب البلاغية الخارجة عن نسق الكتابة الشعرية، كما في شعر أبو تمام مثلاً، إذ انكر عليه ذلك التحديث واخرج من دائرة الشعر، لكن سرعان ما دخلت تلك التراكيب القاموس الشعري واصبحت من ضمن سياقاته، وادواته المعرفية، لذلك فنصوص سلمان داود محمد ربما تكون ذات لغة استشرافية تتنبأ بما ستؤول اليه اللغة الشعرية مستقبلاً .
    لن أقدم في هذه القراءة تأويلاً بديلاً للنص عما ستقدمه العلاقات النحوية من معنى أذ يقول “ريفيه” (إن النحو هو الذي يقدم العنصر الجوهري للوصف البنيوي وهو الذي يحدد بشكل لا لبس فيه وصف الصوائت من جهة، ووصف معاني الجملة من جهة اخرى)2، اذ اني سأتعامل مع النص ليس وفق خطية الجملة بل عمودية القراءة التي تقسم النص الى مجموعة من الفضاءات تشكل معنى دلالياً افتراضياً، وتركيبة علامية منفتحة على بعضها، أي الاعتماد على القراءة النصية دون الاعتناء بمقاربات اللسانيين وخاصة تشومسكي الذي يرى بأن هناك مستويين لتوليد المعنى هما المستوى السطحي للجملة والمستوى العميق، بيد انه يحصر هذا الفهم للاداء اللغوي بالجملة التي يعتبرها متوالية من الفونيمات التي بأستطاعتها توليد عدد لامتناهي من الجمل.
    ولنأخذ إنموذجين تطبيقيين من احد نصوص الشاعر سلمان داود محمد ضمن مجموعته (ازدهارات المفعول به)3 وهو نص (طبعاً والى الأبد) :

مثل آب لطفلين
أقبّل الخارطة من جهة الشمال
وأفلـّي النخلة من دبيب الشظايا
أحترم الله وقصيدة النثر وأنت
وأعرف ان الطريق المؤدي اليك
قنبلة تغص بالاحلام حين تأكل السقوف..

لو جربنا ان نقرأ هذا النص وفق علاقاته النحوية والتركيبية، وتأثيرات تلك العلاقات على بناء المعنى، لوجدنا أنفسنا ندور في فلك من التعمية التي لا توصل الى نتيجة مرضية، حيث إن بناءها النحوي المتماسك لم يمنعها من الوقوع في غموض المعنى، حتى بالاستناد على حليفها الدائم وهي البلاغة، ولكن اعادة قراءة النص وفق آلية جديدة وهي استبدال الوحدة اللسانية للجملة بالنص وتتبع تلك المتتالية ليس في داخل الجملة وانما في النص برمته، حيث يقسم هذا النص الى ثلاث وحدات نصية مؤطرة بأطار من افعال دالة تحرك دلالات النص ضمن وحدة دائرية، فهذه الوحدات النصية هي أولاً: (الاب، الاطفال، أنا، أنت، السقوف) أما الثانية فهي: (الخارطة، الشمال، الطريق، النخلة) والثالث هو (الله، قصيدة النثر، الشظايا، الاحلام)، أما الأفعال التي تحرك هذه الوحدات على محور النص فهي (أقبّل، أفلـّي، أحترم، أعرف)،  وما يعطي تلك الوحدات النصية تماسكها ووحدتها كفضاء تاويلي، يمكن ان تستند اليه القراءة، هي العلاقات الايحائية والمشتركات الدلالية للبنى المنظوية تحت تلك الوحدات فمثلا (الاب) و (الاطفال) يشتركان بمبنى دلالي واحالي واحد، وربما تقترب منهما دلالتي (أنا) و (أنت)، وما تقود اليه دلالة (السقوف) وأقترابها من دلالة جامعة وهي (البيت)، أما الوحدة الاخرى فهناك أيضا فضاء تأويلي وأحالي جامع بين (الخارطة) و (الشمال) و (الطريق) و (النخلة) والتي تقود برمتها الى فضاء جامع وهو (الوطن)، اما الوحدة الثالثة فتقود العلاقات الاشكالية بين وحداتها الى مستوى تأويلي متوتر بين انتماء كل دلالة، وهي العلاقة وبين (الله) المطلق الكوني و (قصيدة النثر) المطلق النصي وارتباطهما بـ (الشظايا) و (الاحلام) تنظوي تحت الفضاء التأويلي والاحالي الجامع وهو (الشعر).
   أذاً تتحدد لنا ثلاث فضاءات يدور في فلكها النص على مستوى القراءة التأويلية، بناءاً على الاحالات التي اجترحناها للوحدات النصية وهي (البيت، الوطن، الشعر)، وهذه الوحدات ترتبط بمجموعة من الافعال التي تمثل المحرك لهذه الوحدات – كما اسلفنا – وتظهر هذه العلاقات من خلال الجدول التالي:
الوحدة  البنية الجامعة          الفعل           العلاقات
الاولى البيت أقبل، أحترم، أعرف العاطفة، الاحترام، المعرفة
الثانية الوطن أقبل، أفلّي، اعرف العاطفة، البحث، المعرفة
الثالثة الشعر أفلّي، أحترم، أعرف البحث، الأحترام، المعرفة
نرى من خلال هذا الجدول بأن كل وحدة نصية ارتبطت بثلاث علاقات مع الافعال، وبهذه العلاقات تظهر البنية المتحكمة بالنص فمثلا (العاطفة، الاحترام، المعرفة) ارتبطت بالبيت بينما غابت عنها علاقة البحث، وكذلك الوطن تغيب عنها علاقة الاحترام، بينما الشعر تغيب عنها علاقة العاطفة، ومن هذه العلاقات ممكن لنا اجتراح مستوى لفهم علاقات النص، التي تقودنا الى تأويل مقترح لها، وبالتالي قراءة مقترحة للنص.
وهناك مقطع آخر من النص ذاته:

أنتِ سمائي التي… ياإلهي
لم استطع التذمرمن ليلها
مخافة أن أثلم الهلال
ولا من عادتي – كما تعرفين
الإتكاء على درهم يترنح في رسالة…

يبنى هذا المقطع/ النص على العكس من المقطع السابق، الذي كانت الأفعال هي المحركة للعلاقات، التي اجترحتها مجموعة من الفضاءات الدلالية أو العلامية، التي تشترك في وحدة نصية ممكن أن تعتمد عليها قراءتنا العمودية للنص، حيث تكون العلاقات داخل هذا النص متوزعة بين وحدتين نصيتين تعتمدان على الأفعال والصيغ الإسمية المشتقة من الأفعال، فالأول هو ( الفراغ في جملة أنتِ سمائي التي… ياإلهي، التذمر، أثلم، عادتي، درهم)، اما الثاني فهو (ياإلهي، أستطع، مخافة، تعرفين، الأتكاء)، أما الفضاءات التي تشحن هذه الوحدات لتوليد الدلالات وتحرك النص فهي (سماء (أنا)، ليل، الهلال، أنا- أنت، رسالة)، ويمكننا اختراق هذا النص وبناء معناه الافتراضي من خلال تدوير هذه الوحدات في محور النص ومحركاته التي اسلفنا ذكرها.
  في هذا النص يظهر امامنا نوع اخر من العلاقات، تبنى بين دلالات كل وحدة نصية من خلال الموقع الدلالي الذي تحتله، إذ ان هناك موقع رئيسي وأخر ثانوي، تكون الوحدة النصية الاولى هي التي تحتل الموقع الرئيسي الذي تبنى عليه دلالة الجملة الشعرية، تتعاضد مع الوحدة الاخرى وهي الثانوية وتطوف في فضاء محكوم بأنغلاق الجملة، بينما ان هذه العلاقات تقودنا الى اجتراح رؤية عامة ممكن ان تحكم النص وتجترح قراءة تأويلية له، فجملة (لم استطع التذمر من ليلها)، والتي تنتمي فيها مفردة (التذمر) الى الوحدة النصية الاولى، تظهر بأن لايمكننا حذف هذه المفردة لان الجملة قائمة عليها، بينما يمكننا ان نحذف مفردة اخرى وهي (استطع) المنتمية الى الوحدة الثانية، وايضا لا يمكننا ان نحذف (ليلها) لانه الفضاء الذي تدور فيه دلالة الجملة الشعرية.
    والعلاقات بين هذه الوحدات ترينا بأن الوحدة النصية الثانوية كانت اطاراً للحركة السردية للنص، رغم انها كانت تلعب دورا ثانويا داخل الجملة ويمكن حذفها دون ان تترك تأثيرا على بنية الجملة او دلالتها – كما وضحنا سابقا – بينما مثلت الوحدات الرئيسية، انغلاقا مفاهيميا للدلالة، ولم تخلق علاقات التجاور بين هذه الوحدات النصية أي تنافذ ولا تأثير بين (الفراغ) و التذمر والفعل أثلم الى أخره، بينما كانت الفضاءات هي وسيط دلالي منفتح حدد وبنى زمكانية النص والاصوات المتحكمة به، أي ان الوحدات النصية الثانوية كان لها دور الرابط بين اجزاء النص، ومتحكمة في ايقاعة رغم انها لم تدخل بصورة فعلية داخل فضاء الوحدة النصية الرئيسية المنغلقة، هذا على مستوى التركيب، أما على مستوى المعنى الافتراضي فيمكننا اجتراحه عبر التدقيق في الوحدات النصية كل على حدة، ومحاولة أجتراح بنية دلالية جامعة لكل وحدة، تظهر ان الوحدة النصية الاولى قائمة على دلالات منغلقة، بينما الوحدة النصية الثانية قائمة على التعالق الدلالي بالوحدة الاولى، اما الفضاءات المحركة لكلا الوحدتين فكانت فضاءات منفتحة تسمح للدلالة بالحركة الحرة ومن هذه الاجتراحات يمكننا توليد معنى أفتراضي.
  الوحدة النصية الثانية (الثانوية)   الوحدة النصية الاولى (الرئيسية)             الفضاء
ياإلهي← أستطع (الفراغ) – التذمر سمائي← ليل
ياإلهي←أستطع← مخافة (الفراغ) – التذمر – أثلم سمائي← ليل← الهلال
ياإلهي← أستطع← مخافة← تعرفين (الفراغ) – التذمر – أثلم – عادتي سمائي← ليل← الهلال← انا – انت
ياإلهي← أستطع← مخافة← تعرفين← الأتكاء (الفراغ) – التذمر – أثلم – عادتي – درهم سمائي← ليل← الهلال← انا – انت← رسالة

     تعتبر نصوص الشاعر سلمان داود محمد من النصوص الإشكالية التي تحتوي على الكثير من البناءات الغريبة وغير المتسقة مع السياقات المعروفة لقصيدة النثر، والتي تحتاج الى تحليل نصي يكشف بناها المستترة خلف هذا الخطاب، الذي يبدو غامضا عند المواجهة الاولى، بينما تتكشف دلالاته عند تحليل تلك الوحدات وتتبع عمقها الدلالي والعلاقات المضمرة بينها.

الهوامش:
1- الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر – محمد صابر عبيد – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ط1 2010  ص52
2- الاسلوبية والخطابية- د. منذر عياش- مركز الانماء الحضاري – سوريا ط1 2002 ص16
3- الاعمال الشعرية الكاملة 1 – سلمان داود محمد – دار ميزوبوتاميا – بغداد ط1 2012 ص127