تحرير العراق من قبل الأمريكان، أو إحتلاله (كما يحلو للبعض)، مثل نقلة نوعية وتحولاً نادراً في سجل العراق الجديد، وأنهى عهداً إستمر لفترة طويلة من الزمن.
الكورد تنازلوا عن كيانهم الذي كان مستقلاً بشكل كامل عن بغداد (منذ 1991)، وشاركوا بفاعلية في كتابة الدستور العراقي الجديد، والإستفتاء حوله، وشاركوا في الإنتخابات البرلمانية، وإعتبروها أحداثاً ديمقراطية فريدة من نوعها على مستوى العراق والمنطقة. ولكنهم إصطدموا بعقد جديدة عدة أضيفت الى العلاقة بينهم وبين غيرهم، وبالذات عندما تأسست المعادلة السياسية المذهلة التي عملت في سبيل إستمرار الشروخ على حالها دون أن تتخذ خطوة واحدة لردمها، وتحويل السؤال عن الممكنات أو ما ينبغي تعلمه، إلى صدمات مضاعفة تنتج الكآبة والازدراء والتردي والترهل والفشل المستمر في الكثير من الأمور. وعندما لمسوا إيقاظ الخرافة والاهتراء والجهل وإغراق سفينة العراق في بحر المفاجآت غير المتوقعة والصادمة، تبين لهم أنهم حاولوا بناء القصور على رمال متحركة. ونتيجة لإنتهاك حقوقهم وإستفزازهم المستمرين إندفعوا نحو تبنى خيار الإستفتاء، وصوت 92% منهم لصالح الإستقلال عن العراق.
التحرير، أو الإحتلال، أو التغيير، أزاح (السنة) المتربعين على العرش ومركز القرار السياسي وهزمهم. ولأنهم تجاهلوا اللعبة وصرخات محبيهم، وضعوا أنفسهم في زاوية ضيقة، ودون أن يعيدوا فيها حساباتهم، أخذوا يفكرون في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء. وبعدما أضاعوا كل فرصهم، تباعاً، في المشاركة والحضور في المعادلة الجديدة، ولم يبق لهم شيء، أخذوا يتباكون على مجد ونفوذ فقدوه. وأتهم بعضهم بالإرهاب زوراً، وإرتمى بعضهم في حضن الإرهاب حقيقة، وساهم البعض الآخر في فتح الأبواب والنوافذ التي هبت منها العواصف السياسية والأمنية الكثيرة، والبقية الباقية (الكثيرة) إكتوت، دون حق، بنار الإرهاب وأسبابه ومآلاته ونتائجه، وحل بهم الدمار والنزوح والتهميش وانعدام الحياة الكريمة وعدم الشعور بسقف حام للوطن، وأصبح عندهم الحديث عن الأمل والإنفراج درباً من الخيال. وفي المعترك السياسي تغيرت التقاليد السائدة وغالبية التصورات والتحركات، والشارع السياسي إستنفر طاقاته وقدراته لنبذ ونسيان الكثيرين منهم، وقطع الصلة معهم.
كما جاء ( الإحتلال) بأناس (من الشيعة) بعضهم معروفين من قبل المعارضين، وآخرين لم يعرفهم أحد من قبل، ومنحهم الشرعية ليجنوا الثمار ويمسكوا زمام السلطات. فنادوا بالشراكة بين المكونات، وبديمقراطية يحسم فيها الشعب إرادته، ولكنهم عندما إبتلعوا سم السلطة، أصيبوا بالإغراء والغرور، فنادوا بالموت من أجل المذهب وإعتبروه الحقيقة الناجزة التي لا يمكن التراجع عنها. وإنشغلوا بالرهانات والصراعات الحزبية والطائفية والقومية، وبتحريك دواليب الحكم بالإتجاه المعاكس من أجل الهيمنة على القرار السياسي والاستيلاء المطلق على السلطة. تجاهلوا القواسم المشتركة الكثيرة والمتشعبة بين العراقيين، والرياح الخارجية التي تتقاذفهم وتتقاذف وطنهم. أما لاعبوهم الأساسيون فقد سعوا الى ترسيخ كل الصور التي تستفز الكورد والعرب السنة وشرائح واسعة من الشيعة أيضاً، معتقدين أن استمرار التوتر يمثل الركيزة الأساسية للبقاء في السلطة ومنع تسليمها الى الآخر. تعثروا وعطلوا إرادة الشعب ولم يقبلوا بخيارته واسترداد عافيته، فإستنزفوا الواردات الخيالية وخزائن الحكومة دون أن يقودوا أي عملية إعمار أوتنمية إقتصادية تستوعب العاطلين والمهمشين، ودون أن يضمنوا الأمن والسلم الاجتماعيين.
أما ( الشارع السياسي) الذي منحهم الكثير من المهل الزمنية لترتيب أوضاعهم، فقد إنبرى ليكشف إلتفافاتهم وتزويراتهم وعوراتهم وانكساراتهم المتنوعة، ونظرياتهم الوهمية والخرافية غير القابلة للتطبيق. وبعدما وصل العراق الى أحرج مراحله، تم تسليم الحكم الى السيد عادل عبد المهدي، وهو بدوره بعث مجموعة من الرسائل والأدلة السياسية والإشارات الكفيلة التي تعبر عن النوايا الحسنة، وتعزز التجاوب الفعلي مع المساعي الرامية الى فتح الباب على مصراعيه لتجاوز العقبات التي منعت تنفيذ الدستور، والتوصل إلى معالجة غالبية مشكلات العراقيين.
ولكن، بدلاً عن عقد العزم على تحديد الأولويات على أساس جملة من المصالح المشتركة بين المكونات، والنظر الى الأمام، وطي الصفحات السابقة الملتبسة والقاتمة التي وقفت حائلا أمام التفاهم بشأن الملفات الخلافية. إستثمر أصحاب المواقف المغرضة في مشاريع منع الاستقرار، وإستمر الفشل يغلف المشهد العراقي برمته. ومازال العراقيون مضطرون للشعور بالتوتر والإرتباك، والقلق على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.