اثبت النظام السياسي في العراق فشله منذ تأسيسه في أعقاب الغزو الأميركي عام 2003 .
حيث لا يزال هذا البلد الغني بموارده الطبيعية الكبيرة، يتصارع مع الفساد المتفشي الذي تغلغل في أنظمته السياسية والاقتصادية .
ويصنّف العراق ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، إذ احتل
العراق حالياً المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر فساداً في العالم .
أكدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت ، خلال إحاطتها الأخيرة الخاصة بالعراق أمام مجلس الأمن الدولي. أن الفساد لا يزال مستمراً في العراق، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أن معالجاته ليست على المستوى المطلوب .
وقد أكدت ذلك ايضا السفيرة الألمانية لدى العراق السيدة كريستيانه هومان ، في أول ظهور لها بعد تسنمها المنصب ، حيث قالت
“نعم هناك مستثمرون ألمان طُلب منهم دفع نوع من الرشا والإتاوات مقابل حصولهم على عقود، لكنهم لم يدفعوا، فالأمر غير قانوني في بلادنا وسيقعون تحت طائلة القانون إن فعلوا ذلك”.
ولا ينكر المسؤولون العراقيون وجود الفساد المستشري في اجهزة الدولة، من خلال خطاباتهم وندواتهم السياسية امام الاعلام .
ويعلم الجميع ان الموضوع الوحيد الذي اتفقت عليه القوى السياسية المشاركة في الحكومة هو تقاسم الوزارات ومؤسسات الدولة وتحويلها إلى مصادر ريعية لها .
يعد الفساد المتجذر هذا عائقًا خطيرًا أمام تنمية البلاد، مما يقوض ثقة الشعب ويشل كل الجهود لتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين .
في عام 2003 أدى انهيار الدولة ومؤسساتها الى الانتقال الفوضوي نحو نظام سياسي جديد قائم على أرض خصبة للممارسات الفاسدة. واستغلت النخب السياسية الجديدة، التي نشأت من مختلف التكتلات والميليشيات، غياب الرقابة الفاعلة لترسخ نفسها في السلطة على مدى سنوات حكمها . فدخل الفساد على نطاق واسع بين المسؤولين الحكوميين. وتشير التقارير إلى أن شخصيات سياسية، على كافة المستويات، تمارس الاختلاس والرشوة والمحسوبية .
ونظام المشتريات العامة، على وجه الخصوص، مليء بالعمولات والعقود المتضخمة . . ويمتد هذا الفساد إلى الأجهزة الأمنية في البلاد. وكثيراً ما يقوم كبار المسؤولين العسكريين ومسؤولي الشرطة بتأمين مناصبهم من خلال الرشوة والولاء للفصائل السياسية بدلاً من الخبرة والجدارة. وهذا لا يضعف قدرة العراق على مكافحة التهديدات الداخلية والخارجية فحسب، بل يعزز أيضًا ثقافة الإفلات من العقاب .
اشرفت النخب السياسية، على مدى العقدين الماضيين، على ثروات هائلة لكنها فشلت في توفير الخدمات الأساسية، مثل الماء والكهرباء والخدمات العامة الاخرى .
وقد ادى سوء الإدارة وسرقة الأموال العامة إلى نقص مزمن في الاستثمار في البنية التحتية . وخنق النمو الاقتصادي وبالتالي زيادة الفقر والبطالة .
الفساد آفة تقوض أسس أي مجتمع متحضر. فهو يقوض الأخلاق وحسن إدارة الشؤون العامة وسيادة القانون، ويمتص الموارد اللازمة للتنمية .
ان الممارسات المنتظمة للفساد لها عواقب خطيرة، فهي تدمر روابط الثقة بين المواطنين والدولة. وبهذا المعنى، يشكل الفساد أحد الأسباب الأساسية لضعف الدول والمؤسسات.
ومن الواضح أن أولئك الذين يدفعون ثمن الفساد في نهاية المطاف هم المواطنون، وفي أغلب الأحيان أفقر الناس . لكونه يفاقم عدم المساواة ويقلل الاستثمارات وفرص العمل .
كما ان للفساد عواقب اجتماعية كثيرة مثل التوتر المستمر وضعف العلاقة مع النظام السياسي ، حيث ينظر المواطنون إلى المسؤولين على أنهم يخدمون مصالحهم الذاتية ولا يبالون بمحنتهم .
الفساد في العراق بدأ من رأس الهرم وانتقل الى القاعدة ، فهو ظاهرة سياسية إلى حد كبير حيث ان الاحزاب الحاكمة وميليشياتها تبحث عن غنائم الفساد لاعادة استثمارها، ليس من أجل الإثراء الشخصي فقط ، بل للحفاظ على السلطة ونظام الحكم ، وتدوير النفايات السياسية !
وللفساد وجوه مختلفة مثل :
الاختلاس
وهو سرقة أو سلب اموال وممتلكات الدولة من قبل مسؤول في السلطة ، او في اي مؤسسة عامة او خاصة .
الرشاوى
وهي الأموال المدفوعة ( او الخدمات المقدمة بلا مقابل ) لأحد أصحاب السلطة السياسية (شخصيًا أو لأفراد أسرته أو لحزبه )، وتكون عادةً من قبل الشركات المحلية والدولية أو الأفراد . وفي المقابل، يحصل دافعو الرشوة على إمكانية الوصول إلى الموارد الطبيعية أو الامتيازات أو العقود الحكومية وغيرها .
الاحتيال
وهو الخداع والغش ، وكذلك عندما يلعب أصحاب السلطة دورًا نشطًا في إخفاء الحقائق أو تحريفها عمدًا ، او الالتفاف على القانون ، ليحصلوا على حصة من المال أو المكافأة مقابل “إغماض أعينهم” عن الجرائم الاقتصادية .
الابتزاز
هو استخدام القوة أو التهديد ، والمضايقات أو المطالب المستمرة لانتزاع الأموال أو الموارد الأخرى من الأفراد والجماعات والشركات من دون وجه حق .
وانشأت في العراق مؤسسات كثيرة لمكافحة الفساد . تسببت في تضارب مهامها وطمس الحقائق . كما تم استخدامها في كثير من الاحيان لاستهداف المعارضين السياسيين .
وقد اثبتت مبادرات مكافحة الفساد كونها حاجزًا ضعيفًا أمام مسؤولي الحكومة والوزارات الذين يقومون بحماية الأفراد من المساءلة على أساس الانتماء الطائفي والحزبي.
إن الافتقار إلى المساءلة والشفافية يغذي خيبة الأمل ويدفع الكثيرين، وخاصة الشباب، إلى الاحتجاج. مثل تظاهرات عام 2019 ، التي شهدت خروج مئات الآلاف إلى الشوارع، وكانت بمثابة رد ثوري على سلوك الحكومة غير السوي وتورطها بالفساد المستشري . ورغم أن هذه الاحتجاجات قد سلطت الضوء على الإحباط الشعبي الكبير ، الا انها أكدت أيضًا على المستوى الخطير من القمع الوحشي لازلام النظام وميليشياته الحزبية .
ولمكافحة الفساد بذلت جهود دولية للإصلاح ، وتعزيز الشفافية، واستقلال القضاء، ودعم مبادرات المجتمع المدني . الا انها واجهت مقاومة كبيرة من الدولة العميقة الراسخة داخل النظام السياسي العراقي .
وتحول الفساد إلى منظومة عمل شبه قانونية، للحفاظ على مكاسب الاحزاب واستئثارها بالحكم من خلال تمويل ميليشياتها . ويظهر ذلك جليا في المنافذ الحدودية ، واقامة السيطرات على الطرق لابتزاز المواطنين . اضافة الى عمليات الخطف والتهديد .
حتى تحول الفساد الى سلوك اجتماعي خطير .
وتحمي الفساد ميليشيات تابعة لاحزاب مدعومة من إيران، وتقوم بعمليات اغتيال واختطاف وأشكال أخرى من العنف للجباية وحماية إيراداتها .
وهي تعمل على شكل كارتلات تستخدم التهديد والقمع لاي محاولة لتحسين الوضع الراهن ، وتخليصه من الفساد . وتسببت في تعطيل القضاء ، ومنعه من النظر في اي قضية كبرى متعلقة بنظام الحكم اوالاحزاب المشاركة . واقتصار المكافحة على أفراد من موظفي الدولة الصغار للتغطية على جرائم الفساد السياسي الكبرى .
ان رؤساء الوزراء بدءا من السيد حيدر العبادي الى السيد محمد شياع السوداني غير قادرين على مواجهة حيتان الفساد واحزابها وميليشياتها، وهم يفتقرون الى الارادة اللازمة لتنفيذ اية إصلاحات في هذا المجال ، رغم تصريحاتهم المعلنة .
الطريق إلى مكافحة الفساد في العراق معقد وطويل ، ويأخذ نهجاً متعدد الأوجه . لعل اهمها
معالجة قضايا الفساد الكبرى التي تشمل كبار المسؤولين والقادة الامنيين ، وقادة الأحزاب السياسية الأكثر نفوذا .
وبالتالي يتعذر استئصال الفساد جذريا من دون اصلاح منظومة الحكم المبنية على الارتجالية والفوضى . والتي تسببت من بين اشياء اخرى بالافلات من العقاب الذي يعد السبب الرئيسي لطغيان الفساد .
وفي هذه الحالة لابد من تطبيق الدستور فيما يتعلق بتشكيل المجلس الاتحادي ليكون رقيبا على اصدار القوانين الناجعة وتحقيق العدالة في ادارة الدولة ، بعد ضمان صعود عناصر فاعلة ونزيهة .
ثم اعادة تشكيل المحكمة الاتحادية
من قبل البرلمان وليس عن طريق التعيين ، لما لها من قرارات خطيرة واجبة التنفيذ بحكم الدستور . لتجنب ظاهرة الافلات من العقاب وضمان استقلالية القضاء ، بتطبيق مبدأ فصل السلطات.
وكذلك القضاء على ظاهرة تفشي السلاح خارج نطاق الدولة ، ابتداء” بحظر الميليشيات الحزبية وحمل السلاح .
واعدة تنظيم قوات الامن لتكون بعيدة عن التحزب والموالاة.
حيث ان اغلب قضايا الفساد الكبرى تكون محمية بقوة السلاح من الميليشيات الحزبية. او العصابات المنظمة .
إرساء مبدأ المساءلة من خلال أنظمة الرصد وصنع القرار الشفاف. المبنية على قانون من اين لك هذا ، مع تعزيز منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة
ودعم المسائلة البرلمانية، وأجهزة الرقابة المالية والمحاسبية في تدقيق ومراقبة أداء المؤسسات الحكومية.
والعمل على إلاصلاحات القانونية من خلال تحديث قوانين مكافحة الفساد وإنفاذها . وفرض عقوبات صارمة على المسؤولين الذين يتورطون في قضايا الفساد بغض النظر عن حزبهم او دينهم او قوميتهم .
وكذلك حماية المبلغين عن المخالفات والخروقات المالية والحسابية .
إن تعزيز ثقافة النزاهة والخدمة العامة بين الجيل الجديد أمر حيوي للتغيير المستدام .
وفي الختام فان الطريق إلى عراق أقل فسادا محفوف بالتحديات، ولكن المطالبة العامة المستمرة بالمساءلة والعدالة تقدم الثقة والأمل للنهوض وإعادة بناءالدولة نحو مستقبل خال من الفساد ليكون أكثر إنصافًا وازدهارًا لمواطنيه .