23 ديسمبر، 2024 5:14 ص

الفساد بين فهم الحكومة وفهم الثورة

الفساد بين فهم الحكومة وفهم الثورة

يُعرّفُ الفساد Corruption في مفهومه التقليدي بانه ” قيام مكلف بوظيفة رسمية بتحويل منافع مستحقة او غير مستحقة الى شخص ما مقابل رشوة Bribe ” ؛ وهذا النوع من الفساد ، وفقاً لهذا التعريف ، لايأخذ شكلاً مؤسسياً ولكنه تبادل غير قانوني للمنافع ، وهو يتعلق بشكل عام بتدني المواصفات الاخلاقية للأفراد ، ويبدو ان هذا المفهوم هو الذي تتبناه الحكومات العراقية في فترة مابعد الاحتلال الامريكي ، ويظهر ذلك من خلال الإجراءات التي تتخذها كلما علت الاصوات بالمطالبة بمكافحة الفساد مثل احالة الوزراء او المكلفين بالخدمة العامة الاخرين الى الاستجواب في البرلمان او كما فعلت الحكومة الحالية حين بادرت بعد قيام الثورة الحالية بالاعلان عن احالة عدد من الموظفين الى النزاهة او المحاكم ، وقد صدرت كما يبدو بعض الاحكام مع وقف التنفيذ ودون تضمين المدانين اعادة ما اتهموا بسرقته ظناً بان ذلك قد يكفي لاقناع الثوار بانها تتخذ اجراءات جدية لمكافحة الظاهرة .

هذا التعريف الكلاسيكي غادره المتخصصون الدارسون لهذه الظاهرة واصبح الاتجاه العام يركز على انواع الفساد التي تتخذ شكلاً مؤسسياً وتصبح جزءاً متجذراً من الادارة اليومية للدولة ، كما تمثل الباب الذي تنفذ منه انواع الفساد الاخرى ؛ لقد ظهرت في بعض الدول التي تشيع فيها ظاهرة الفساد بعض أنماط منه تكرسها القوانين التي تدار الحياة العامة وفقاً لها ، والعراق نموذج مثالي لانه كما يبدو قد اصبح يدار في كل مناحي حياته ، من شرطي المرور الذي يقف في الشارع الى رؤوس السلطة الحاكمة بكل فروعها ، بقدر او باخر من الفساد ، الفردي منه او المؤسسي . ومايعنيني هنا هو البحث في اصول الفساد المؤسسي الذي يفتح الباب على ألوانه الاخرى التي تأخذ شكل الرشوة او الاستحواذ على المال العام دون استحقاق .

لقد أقيمت العملية السياسية – الدستورية بعد الاحتلال وفقاً لمفهوم غريب لاسابقة له في آية دولة وهو مفهوم المكونات ( ربما باستثناء لبنان رغم انه لاتوجد وثيقة دستورية تؤسس لذلك ، ويقال ان هنالك ميثاق وطني بهذا الشأن توافق عليه زعماء البلاد المؤسسون عشية الاستقلال ) ؛ الشعب العراقي ، وفقاً لتعريف دستور ٢٠٠٥ ، هو مجموعة مكونات ، فهو ليس هيئة مواطنين توافقوا على العيش في وطن واحد على أسس المساواة الكاملة ، بل فئات سكانية مذهبية او اثنية ترتبط بالوطن والدولة من خلال العقيدة الدينية او الأصل العرقي ، وتتمتع بنفوذ في الحياة العامة وفق حجمها ، وبالتالي فان معيار مصالحها ، وهي المحرك الرئيسي للسياسة . تحدده العقيدة الدينية او الأصل العرقي وليست هوية المواطنة التي ترتب حقوقاً وواجبات متساوية على المواطنين . وفِي النتيجة النهائية تعلو الهويات والمصالح الفئوية على المصالح ذات البعد الوطني الشامل ، وتتحول السلطة لدى النخبة السياسية من وكالة شعبية ذات بعد وطني وتكليف طوعي الى غنيمة .

لو عدنا الى نص المادة ( ٣ ) من الدستور الحالي نراها تنص على ” ان العراق بلد القوميات والأديان والمذاهب “وتمضي بقية مواد الدستور المنظمة لهياكل ومؤسسات الدولة وفق هذه الروح ، بل ويتكرر مفهوم المكونات بالظهور مرات عديدة ، فيما لم يشار فيه الى المواطنة الاّ بشكل عابر؛ ولو قارنا هذا المفهوم بما ورد حول موضوعه في دستور عام ١٩٢٥ سنرى الأخير متقدماً على الدستور الحالي وأقرب الى مفهوم الدولة الوطنية الحديثة ، اذ تنص مادته السادسة على انه ” لافرق بين العراقيين في الحقوق وان اختلفوا في القومية والدين واللغة ” ، وتكون قد قدمت المشترك بين المواطنين على الاختلاف ، بينما بدات مواد الدستور الحالي بتقديم الفوارق ، وهذه فلسفة فرضها الامريكيون منذ مؤتمر المعارضة في لندن سيّء الذكر الذي أعاد فيه الامريكيون تشكيل قيادة المعارضة وفق معايير طائفية وإثنية ، وعندما تولى پريمر ادارة العراق قام بتشكيل مجلس للحكم الانتقالي ، وقد اعترف ان المجلس لم يكن سوى توسيع لعدد أعضاء قيادة مؤتمر لندن وفق نفس المعايير الطائفية والاثنية ؛ في ظل مفهوم كهذا يتحول مفهوم السلطة من ” وكالة عامة عن الشعب ” الى ” غنيمة ” تتنازعها النخب التي تنتحل تمثيل المكونات لتعزيز قوتها وتعظيم نفوذها .

ان بناء دولة ما وفق هذه المعايير سيحيل الحياة السياسية الى منافسة بين مجموعة نخب ، بحكم طبيعة النشاط السياسي ، تتشكل وفق عوامل الدين والعرق وتنتهي بالتالي الى إفراز كتل وقوى ذات أوزان تمثيلية متباينة ، وقد لجأ الامريكيون فيما أصدروه من قوانين لادارة الشؤون العامة باعتماد مبدأ التوافق من اجل ضمان ولاء الجميع وبزعم عدم السماح بطغيان طائفة او عرقية بسبب تفوقها العددي من خلال توزيع حصص طائفية لمفاصل الادارة العليا للدولة ، وانسحب ذلك بالتالي على بنية الادارة العامة بمختلف مستوياتها ؛ وقد تابعت الطبقة السياسية التي تم تسليمها السلطة ذات المبدأ من خلال الممارسة السياسية والدستور الدائم ، الذي كتبته او تمت كتابته لها ، وذلك بان يكون لرؤساء الهيئات السيادية الرئيسية ، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس النواب ، نواب من طوائف وإثنيات اخرى دون تحديد واضح لصلاحياتهم ، بل تركت عائمة ودون تحديد ماإذا كان الرئيس ونوابه يعملون كهيئة تتشارك تضامنياً في اتخاذ القرارات او فرادى يكون لكل منهم صوت معطل بما يمنح الطائفة او الاثنية التي ينتمي اليها دون المشاركة الفاعلة الحقيقية ،، وهذا الأسلوب في تنظيم سير العملية السياسية لم يحقق التوازن بين الطوائف والإثنيات من خلال التوافق بسبب عدم فاعلية مناصب نواب الرئاسات جراء عدم تحديدها ، بل أنتج واحدة من اسوأ الظواهر السياسية التي يمكن ان يقع فيها اي بلد وهي ظاهرة يعرفها علماء السياسة بالزبائنية السياسية Political Clientelism وهي ظاهرة قديمة قدم نشوء الدولة في تاريخ البشرية وحين كان سكانها ذوي هوية تحددها هوية الحاكم قبل ظهور مفهوم الدولة الوطنية الحديثة او دولة المواطنين المتساوين منذ اواخر القرن السابع عشر . لقد كان بالإمكان تجنب هذا الأسلوب الطائفي الذي يشظي وحدة الشعب ( ورغم كل عيوب الدستور الاخرى ) من خلال تفعيل المادة ( ٦٥ ) التي تنص على تشكيل مجلس تمثيلي ثانٍ بموجب قانون خاص تمثل فيه الاقاليم والمحافظات في اطار السلطة التشريعية ، وهو ترتيب دستوري تلجأ اليه البلدان التي تشهد نزوعاً نحو اعاقة ظهور الطغيان تحت آية تسمية او هوية فرعية ، ولكن القانون لم يصدر وظلت المادة مهملة لان النخب الطائفية وجدت انها تمس بمصالحها ، وهذا نموذج من اشكال الفساد المؤسسي .

الزبائنية السياسية في معناها الأساسي ” مبادلة الاصوات بالمنافع بين لاعبين متفاوتين في القوة والتأثير ، حيث يقوم السياسيون الاكثر نفوذاً بمكافأة سياسيين اقل نفوذاً بالموارد العامة ، المالية وغير المالية ، لقاء الدعم السياسي خلال الانتخابات او في اطار العملية السياسية في مراحل لاحقة ” ، اي ان هنالك زبون سياسي لايتمتع بنفوذ كبير مستعد لتقديم الدعم السياسي الى طرف اكثر نفوذاً لقاء موارد مالية وغير مالية ؛ اي ان الزبون يتحول الى عامل سياسي بالوكالة لطرف سياسي رئيسي في العملية السياسية ، وتتخذ المنافع التي يحصل عليها الوكيل شكل عقود ومقاولات عامة او حصة من المناصب والوظائف العامة وفرص اخرى وفق معيار المنفعة التي يقدمها وليس على اساس الاستحقاق . ان مايميز الزبائنية السياسية عن اشكال الفساد المألوفة هو انها عملية تتم في العلن ، غير انها تمثل في نهاية المطاف شكلاً من اشكال الفساد لانها تشكل خرقاً لمعايير قانونية او عرفية ، خاصة تلك التي تتعلق بالمناصب والوظائف الممنوحة كمكافآت .

واذا طبقنا هذا المعيار العام على العملية السياسية في العراق يتضح لنا بشكل لالبس فيه ان معظم جوانبها تدار وفق مفهوم الزبائنية .

ان اسوأ مافي الامر في الحالة العراقية هو ان روح الدستور العراقي ونصه ، ومفهوم المكونات الذي صيغ وفقاً له ، الى جانب قانون الانتخابات ونظام القائمة المغلقة وقانون ليغو المعدل ، كلها تمنح هذه الظاهرة طابعاً مؤسسياً وقانونياً .

يكفي للمتابع ان يلاحظ الطريقة التي تتم بها عملية اشغال المناصب الرئيسية في الدولة وماتجره من ذيول ونتائج بالنسبة للوظائف العليا والدنيا على حد سواء . تتحالف القوائم الانتخابية الفائزة وفقاً لوعود متبادلة بفوائد وعوائد من المال العام وموارد البلاد الاخرى ، وتجري الصفقة النهائية بطريقة تشبه المزاد العلني . يشكل القادة الاكراد والسنّة الزبون الوكيل ، الاقل حظاً في عدد مايفوز به من مقاعد ، والذي يقدم الاصوات مقابل مكافآت من الموارد العامة للدولة ، ويتم تشكيل هيئات السلطة التي تبقى بعيدة عن المساءلة بفعل الاتفاقات الزبائنية التي تعقد في العلن وفِي الغرف المظلمة على حد سواء والى الحد الذي اصبح يشكل فضيحة مخزية في بلد متحضر .

اما اشكال الفساد الاخرى المقننة فهي تتمثل في تشريع الامتيازات ، وهي في الغالب امتيازات لانظير له في اي نظام فيه اي قدر من روح الديمقراطية . يكفي ان نشير الى الامتيازات التي يشرعها الپرلمانيين لانفسهم وهم ضامنين للمصادقة النهائية عليها من قبل رئاسة الدولة او رئاسة مجلس الوزراء لقاء امتيازات متقابلة يشرعونها للجهات السيادية العليا ، رغم ان تقاليد العمل الپرلماني في كل العالم تحظر على الدورة الپرلمانية التي تشرع الامتيازات الاستفادة منها الا بعد انقضائها وحلول دورة پرلمانية جديدة بعد الانتخابات العامة .

وهنالك اشكالاً اخرى من الفساد الذي تتيحها عملية التواطؤ السياسي مثل نفقات اجهزة الحمايات الخاصة

المبالغ فيها ونفقات ومكافآت هيئات المستشارين ونفقات الإيرادات والعلاج خارج البلاد ، اضافة الى الفساد المتمثل بالرشاوى والإحالة المباشرة لعقود المقاولات والاستيرادات الحكومية المدنية والعسكرية ،، وكل ذلك يتم في ظل التواطؤ الذي ينجم عن الزبائنية السياسية ويتعذر مع ذلك متابعتها جدياً من قبل آية جهة رقابية بما في ذلك مجلس النواب ،،

هنالك اشكال لانهاية لها من الفساد في العراق الذي اصبح ينخر جميع مفاصل ادارة البلاد ويتعذر اصلاحه بقانون هنا او هناك او من خلال التضحية بعدد من الموظفين بينما تبقى الالية المنتجة للفساد قائمة ، وقد يختلف او يتبدل اللاعبون ولكن تبقى تلك الالية قائمة وفاعلة ..

ان العلاج الوحيد هو في إلغاء هذه العملية السياسية من اساسها واعادة بناء النظام الدستوري والقانوني العام للبلاد وفق مفهوم المواطنة وتفعيل التشريعات التي تحرم الطائفية وتعلي المعايير دون الوطنية ، وينبغي ، بشكل خاص ، تحريم ومحاسبة ظاهرة العشائرية والقبلية وحلولها محل مؤسسات الدولة في كثير من جوانب الحياة العامة وإحلال سلطة القانون بما يليق ببلد متحضر في القرن الحادي والعشرين .