إستوقفني خبر أرسله لي صديق حول حاكمة مدينة استكهولم وهي في الوقت نفسه عضوة في البرلمان ورئيسة حزب اضافة الى كونها عمدة العاصمة التي زلزت العالم بتصرف لها أتهمت على أثره بالفساد الإداري لأنها خانت الأمانة وهي حاكمة المدينة ولآرتكابها جريمة يعاقب عليها القانون !!! ربما هناك من يتساءل عن تلك الجريمة ( النكراء ) التي ارتكبتها هذه السيدة حتى تكون مادة دسمة في بلادها للصحف ووسائل الإعلام المختلفة !! جريمتها لا تتعدى عن كونها ملأت خزان وقود سيارتها الخاصة وإستقطعت الثمن من دفتر بطاقات حكومية !! وبهذا التصرف خانت الأمانة ولم تسعفها الأعذار والحجج التي قدمتها وإنها إضطرت الى ذلك العمل ( الشنيع !! ) لأنها لم تكن تمتلك نقودا في جيبها ! لأن القاضي اعتبارها مذنبة وقال لها ( إن ذلك لا يبرر فعلتك الشنعاء إذ كان بامكانك ركن عربتك وتصعدين بالقطار العام ) . !! إضطرت على إثر ذلك تقديم الإستقالة من منصبها ورفع عضويتها من البرلمان وجمدت مناصبها جميعها وجلست في بيتها !!!!.
الخبر لا يحتاج الى شرح أو فهم ، ولا يحتاج الى عمل مقارنة بين ما عندنا وعندهم !! لكنه أعاد بي الى مقال سابق ( الإرهاب العشائري ) التي اشرنا فيه الى انه بداية مجموعة مقالات عن ( الإرهاب ) في العراق الذي تنوع شكله ومضمونه والوانه وأساليبه والتي لاتقل دمارا ووحشية عن ذلك ( الإرهاب ) المرتبط بالأعمال الإجرامية والقتل والدمار ، لأن جميعها تصب في خانة واحدة هي تعطيل بناء العراق ووقف مسيرة إعادته الى حضيرة المجتمع العالمي سواءا في الخارج أو في الداخل وقتل فيه روح المواطن .
ولعل أقل ما يطلق على جريمة الفساد هو ( الإرهاب ) بعينه لأنه لا يقتصر على سرقة المال العام فحسب بل أنه يسهم وبشكل مباشر في تدمير مفاصل الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية وتدمير الإنسان العراقي بشكل كامل وجعله أسير هذه الآفة التي تعرقل تطوره ومواكبته للحضارة .
وجريمة حاكمة استكهولم !!! قادتني الى جريمة أخرى في العراق لا تقل شأنا ومن النوع الثقيل بعد أن كشفت مصادر عن إيقاف مشروع بناء مدرج جديد لإستقبال طائرات ” البوينغ ” الضخمة في مطار دولي في إحدى المحافظات العراقية ” المهمة ” بسبب إكتشاف صفقة فساد كبيرة فيه تصل الى عشرات الملايين من الدولارت ، تتوزع على جهات حكومية متعددة في تلك المحافظة حيث أحيل هذا المشروع الى شركة عراقية بعقد قيمته 135 مليون دولار ( على الرغم من أن بناء مطار كامل يكلف حوالي 70 مليون دولار ) على أن تحصل هذه الشركة على 65% من قيمة العقد أي مايقارب ( 88 ) مليون دولار والبقية 47 مليون دولار تذهب 35 مليون منها الى مسئول كبير في هذه المحافظة لأنه رفض تمرير الصفقة دون هذا المبلغ والبقية توزع بالتساوي على أعضاء مجلس المحافظة ، لكن بعض من المخلصين أكتشفوا الأمر وأفسدو على هذه ( الملة ) خططهم وأوقفوا المشروع !!.
فقد كشفت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية عن تحقيقات تجري في الولايات المتحدة في قضايا فساد تتعلق بعمليات إعادة الإعمار في العراق وإن هناك أكثر من 50 حالة فساد جديدة تم رصدها خلال ستة اشهر تصل أقيامها الى 510 مليار دولار تشمل بنوكا وصفقات أراضي ومدفوعات قروض وملاهي وقمار وشددت على أن ( رائحة الفسد في العراق تزكم الأنوف ) بسبب غياب الرقابة الجدية والحساب الفعلي للمتورطين في هذه الممارسات الإجرامية في حين أكد رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي صباح الساعدي ان رئيس هيئة النزاهة السابق القاضي راضي الراضي هرّب ( 200 ) كلغم من الوثائق والمستندات الحكومية التي تدين مسؤولين عراقيين وأميركيين موجودين حاليا في السفارة الأمريكية في بغداد في صندوقي التنمية وإعادة الاعمار تبلغ أقيامها نحو ( 16 ) مليار دولار .
جرائم الفساد في العراق جميعها من العيار الثقيل لا توازي جريمة حاكمة استكهولم بل تفوقها لا شكلا و مضمونا فحسب ، بل أيضا في أقيامها ونوعيتها وأن الإجراءات ضدها لا توازيها لا في الحساب ولا في العقاب ! فمثلا كشف مهندس طيار فساد صفقة الطائرات ال( أف 16 ) من الجيل الثاني أو الثالث بنحو ( 12 ) مليار دولار ، وماهي إلا سوى ( خردة ) لاتملك عمرا تقويميا أو زمنيا خصوصا وإن الولايات المتحدة بدأت بصناعة الجيل السادس من هذا النوع من الطائرات وبالتالي فإن هذه الصفقة لو تمت بالفعل فانها ستكون “حديد خردة ” وهذا ما أكدته الشروط الأمريكية للصفقة إذ فرضت اميركا شرطا في العقد يتضمن ان لا تطير الطائرة اكثر من نصف ساعة يوميا اي خمسة عشر ساعة في الشهر!! مع العلم إن قيمة الطائرة الواحدة حسب وكالة ( أور ) لايتجاوز ال(25) مليون دولار وبالتالي فإن ثمن الصفقة المؤلفة من ( 36 ) طائرة تبلغ ( 900) مليون دولار وليس 12مليار دولار !!! بالاضافة الى ملحقات الطائرة من ذخائر جوية مختلفة بقيمة نصف مليار دولار ونصف أي أن هناك تسعة مليارات ونصف من الدولارات من الأموال العامة لا يعرف أين ستذهب !!! .
وطال ( الإرهاب ) في الفساد مفاصل ذات إتصال مباشر مع المواطنين وقوتهم اليومي وتشكلت مافيات وجماعات تعتاش على هموم المواطنين وأكثر هذه الجرائم تأتي من قبل المسئولين عن عقد الصفقات الخاصة بأستيراد المواد التموينية وتشير وكالة أصوات العراق الى أن تحقيقا موسعا فتح لمعرفة المسؤولين عن توزيع مادة الحليب من نوع( فريش) صنع عماني.. أثبتت الفحوصات المختبرية عدم صلاحيته للاستهلاك البشري !! في حين أضرم محتجون في إحدى المحاظفات العراقية النار بكميات من الشاي التالف، الذي وزع ضمن مفردات البطاقة التموينية، خلال الأشهر الماضية ، وبلغ الفساد مداه من وجهة نظر المحتجين ، وللتغطية على هذه الجريمة من وجهة نظرهم فقد صدر قرار بنقل محاكمة المتورطين الى محاكم العاصمة على الرغم من أن هذه المحافظة تنعم بأمان أمني أفضل من بغداد .
هذه الأمثلة لا تنحصر في وزارات معينة فوزارة النفط تعد واحدة من أكثر الوزارات فسادا فمن مجموع 149 قضية تم أحالت سبعة منها وأتهم أثنين فقط !!! ولايختلف الحال في وزارة الدفاع فمن مجموع 169 قضية لم يتم إدانة إلا شخص واحد فقط !!! في حين بلغت جرائم الفساد في وزارة التعليم العالي 188 حالة تشمل درجات جامعية مزورة يصعب تمييزها إذ أن معظم حامليها كانوا في إيران !! وغابت عمليات مكافحة الفساد الإداري في وزارة العلوم والتكنولوجيا وأنعدام التعاون في وزارة الأعمار والأسكان والبقية تأتي !! .
التقارير الدولية تشير الى أن الوضع الأمني وطابع العنف للعناصر الإجرامية في داخل الوزارات يجعل التحقيق في الفساد محفوفا بمخاطر شديدة على الجميع حيث يشتكي المفتشين العاملين باستمرار من الإفتقار للدعم ما سمح بهذه الآفة( الفساد ) في ان يكون نموذجا في العديد من الوزارات وإنهم أصبحوا عرضة ” للتخويف ” في ظل نظام قضائي لايزال ضعيفا ومرعبا وعرضة للضغط السياسي .
إجراءات مجلس الوزراء الذي وافق عام 2010 على الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2010-2014 تبقى ناقصة لطالما هناك من يشعر بأنه فوق القانون ويتمتع بحصانة القرابة والصداقة مع هذا المسئولين وذاك ولا يسعنا في هذا المقام إلا إستذكار الموقف الذي تعرض له رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل عندما أوقفه شرطيا لمخالفته فقال له ( أنا رئيس الوزراء البريطاني ألا تعرفني ) فرد عليه الشرطي بكل ثقة ( القانون فوق الجميع حتى على تشرشل !!! ) والحليم بالاشارة يفهم !!!