للراحل والفقيد الفريق اول الركن عبد الجبار خليل شنشل (أبو مثنى) سيرة ذاتية وخدمة عسكرية طويلة تمتد منذ ان تخرج من الكلية العسكرية عام 1940 ولغاية احتلال العراق عام 2003 محفوفة بالعمل الجاد والدؤوب والنزاهة العالية والحرص الحثيث على تطوير وبناء الجيش العراقي الوطني وتحديثه وتوسيعه على خلفية طول خدمته ومشاركته في جميع معاركه القومية والوطنية ومن ثم التخطيط لتاهيله وتحديثه حتى حسب بانه قاموس التجهيز وحاسوب معداته وقدراتة حفظا على الذاكرة بالعدد والعدة وفي الزمان والمكان منذ ان تسلم رئاسة اركان الجيش ومن ثم استيزاره للدفاع وللشؤون العسكرية لغاية انتهاء خدمته العسكرية وحل الجيش الوطني بقرار الحاكم المدني بريمر وبطانة العمالة الحاقدة التي نصبها الاحتلال الآمريكي الغاشم .
استميح عذرا من الذين هم اقدر واخبر واقرب شأنا ومنصبا وملازمة للفقيد مني للحديث عن مسيرة الفقيد التاريخية والعسكرية فهم ابلغ واقدر مني على ذلك وهم كثر ، وأحثهم على ضرورة الإيفاء بما يستحقه هذا الطود العتيد والنبراس الوطني الشامخ من تأبين او بحث او توثيق لهذه المسيرة كنموذج لمسيرة القائد الميداني والقيادي لجيش خدم فيه لما يقرب من 65 عاما حسب فيها وخلال تقلده مناصبه القيادية والإدارية فيه بانه الجيش الرابع في القوة والاعداد في العالم ،الكتابة من أجل التاريخ عن الفقيد ماله وما عليه ، احسبها تجذيرا لثقافة الاجيال وتخليدا لتراجم الرجال الرجال .
لي مع الفقيد رحمه الله في الذاكرة واقعتين التركيز عليهما فقط في هذا التأبين، عرفت من خلالها كم كان الفقيد فيها حريصا على جيشه وجنوده ومتواضعا ومتقشفا في حياته.
الواقعة الاولى كانت عام 1970 حين كنت مقيما دوريا في مستشفى الرشيد العسكري حيث كان يرقد العميد الركن عبد الجبار الأسدي مدير الحركات العسكرية والعقيد عبد المجيد فدعم مدير الانضباط العسكري في حينها في ردهة الضباط ، وفي ساعة متأخرة زارهما الرئيس احمد حسن البكر و امر بسفر العميد الركن الأسدي (وهو الفريق الركن و وزير الاتصالات السابق أطال الله عمره) للعلاج في انكلترا وأمر ان اكون بصحبته في السفر ، وفعلا سافرنا صباح اليوم التالي وأدخل الآسدي في مستشفى (رويال فري) المتخصص بامراض الكبد ، فوجئنا بعد ذلك بيوم بزيارة كل من رئيس اركان الجيش في حينه الفقيد شنشل وبصحبته العميد الركن سعيد حمو وكان على ما اعتقد قائد فرقه في حينها وكان بصحبتهما الملحق العسكري في لندن المقدم في حينها المرحوم محمد الويس رحمه الله على ما أذكر . واتضح حينها انهما كانا ضمن وفد عسكري في فرنسا وتوجها الى لندن لزيارة الفريق الأسدي فيما كانت السيده ام مثنى ترقد أيضا في مستشفى( همرسمث) في لندن لإجراء تداخل جراحي ، وخلال اسبوع تواجدهم في لندن كنت ارافق الفريق شنشل وسعيد حمو والملحق العسكري ذهابا وأيابا بين المستشفين وهما داخل لندن ، دهشت بإصرار الفريق شنشل برفضه التنقل في سيارة خصصها الملحق العسكري لخدمة تنقله مصرا على الذهاب في قطارات التنقل العامة تحت الأرض ما يسمى ب (الأندر كروند ) وانه لا يحتاج الى هذه السيارة طيلة وجوده في لندن ، فلم نجد من وسيلة لإقناعه من حيلة وهكذا اصبحنا نتنقل جميعا بصحبته في القطارات العامة وتبديل المسارات من قطار الى آخر خلال التنقل والمشى مسافات غير قصيره لحين وصول المستشفى ، ذات يوم كنا قافلين بالعوده فصادف ان صعد معنا في القطار طبيبين عراقيين عسكريين كانا يدرسان للتخصص وبعد أن سلما علينا اصطفا الى جانبي وسألني احدهما ما الذي حدث في العراق ، هل هناك محاولة انقلاب عسكري فاشلة ؟ ، قلت : كلا ، نحن هنا لمتابعة احوال مريض مهم ، قال : لماذا إذا انتم تتنقلون كما نلاحظ بدون خدمات رسميه وعلى شكل مجموعة لا تليق بمنزلة السيد شنشل وحمو ؟ ضحكت لذلك وقلت لهما أسئلوه ، ونبهت الفقيد لما استفسروا عنه ، فأجابهم ولماذا انتم معنا في نفس القطار ولا تتنقلوا بسياراتكم ، أجابوه : لسهولة التنقل وتلافي الإزدحام ، ضحك رحمه الله وقال ونحن هنا في زيارة خاصة ونتنقل بالقطار لنفس الاسباب !. انا أعرف لندن جيدا ومشكلة الازدحامات فيها ، هكذا كان الفقيد نزيها ومتقشفا وحريصا على المال العام ، ترى كيف كان الحال في مئات العقود التي كانت تعقد تخص الاسلحة والاليات والمستلزمات العسكرية مع الدول المصنعة حين كان شنشل ، هل هناك مقارنة بين ما كان يجري في ذلك الزمن الجميل وبين ما يتم ابتزازه اليوم من ثروات واموال طائلة من خلال العقود التسليحية وعقود التجهيز بشكل عام من قبل اعلى المناصب في الدرجات الوظيفية وحاملي الرتب الرفيعة من القادة في وزارة الدفاع وغيرها من الوزارات في زمن وسخ ، عجز ان يوظف لنا مسئولا واحدا يحمل ما حمله الفقيد من قيم ونزاهة اصبحت مضرب الامثال وسمة شاخصة لنظام كامل لعهد مضى ليعقبه زمن الفساد والظلم لا يحمل في المحتوى والمفهوم سمة من سمات الدولة العصرية او الديمقراطية التي غزا المحتلون العراق من أجل إقامتها ؟.
الواقعة الثانية التي عرفتها عن قرب من الفقيد الفريق الاول الركن عبد الجبار خليل شنشل والتي تتعلق بمهنتي وعلاقتي به كطبيب عسكري والتي أرى من باب الإنصاف والوجدان ذكرها دون ان يمس ذلك قسمي الطبي كما اعتقد : هي أنني استدعيت من قبل اقرب الناس من عائلته اليه ، صباح يوم 3 آب (اوغست) عام 1990 بعد دخول الجيش العراقي في الكويت بيوم واحد للذهاب الى دار الفريق وفحصه طبيا لتدهور حالته الصحية وفعلا توجهت بمعية اقرب الناس اليه وعندما وصلت الدار وشاهدت الفريق شنشل وهو مستمر بالمشي ذهابا وايابا على طول خلفية النهر (مسنايه) حتى تورمت ساقاه وقدماه بشكل مخيف واخبرت انه لم ينم منذ يومين ، رحب بي الفريق وقال : دكتور انا لست مريضا خلصني من ورم القدمين . اجبته سيدي : لن يختفي الورم الا بعد ان ترتاح ، أجابني : انا في بيتي ولست في ميدان المعركه كما ترى ، انا هنا لأن إخوانك حفاظا على راحتي لم يخبروني حتى حين ذهبوا الى الكويت ، وهم لم يدركوا انني اعيش هول ما يتم للقطعات والقوات والجيش الذي بنيناه ويراد له دوليا التدمير . وعندما ذكرت له امكانية الدخول الى المستشفى لإزالة تورم الساقين رفض الدخول كما رفض السفر الى الموصل بعيدا عن بغداد ومتاعبها وغاراتها لعل في ذلك راحة نفسية له من الأرق والقلق بإجازة مرضية وقال دكتور انا لست من هذا النمط الذي يتشبث بالراحة والابتعاد في المحن والأزمات ، انا باق في بغداد ادعو الله ان يحفظ الجيش العراقي وقيادته ، وليس لي دور آخر كما أرتأت القيادة ، ودعته بدموع لم أكن قادرا على درئها واوصيت له بما يلزم من العلاج والتوصيات .
رحم الله الفقيد عبد الجبار خليل شنشل الذي سيبقى قامة عالية من بين قيادات الجيوش العربية في كل صراعاتها مع الجيوش المحتلة والمعارك الضارية التي خاضها جيش العراق الوطني من أجل الأمة . رحمك الله يا سيدي ابا مثنى , أحسن الله عزائك ، وادخلك فسيح جناته واللهم الله عائلتك وأهلك ومحبيك الصبر والسلام . عمان في 22 أب 2014.