23 ديسمبر، 2024 11:22 م

الفروسية الممنوعة وحيدر العبادي

الفروسية الممنوعة وحيدر العبادي

قراء كثيرون أيدوا فكرة مقالي السابق عن وطنية حيدر العبادي واستقلاليته، وكثيرون غيرهم، بالمقابل، كالوا لي وللمقال ما لا نستحق، فهو رأي حر، وكل رأي قابل للنقاش والمراجعة، بكل حال. ونحن نقيس الأمور بالوقائع والقرائن وحقائق الأمر الوقع المعاش. ولا يحق لأحد أن يشكك في نوايا العبادي، وفي صدق دعوته إلى قطع اليد التي تعتدي على وحدة العراق وسيادته وكرامة أهله المساكين. ولكن الله عرفوه بالعقل، وليس بوعاظ السلاطين.

فمن ذا الذي ينكر أن العراقيين، بأغلبهم، مؤمنون بأن أحدا في القصر الجمهوري أو رئاسة الوزراء أو البرلمان له قيمة لدى الممسكين الحقيقيين بعجلة القيادة في بلاد ما بين النهرين، من (المجاهدين) الشيعة والسنة على السواء؟. فهم الأقوى والأكثر هيبة واحتراما من كل الدولة، ومن رؤسائها ووزرائها أجمعين.

فبعد كل ما جرى، في أحد عشر عاما من حكم الخنجر والساطور والمتفجرات والمليشيات، وبعد أن تراكمت أحلام المعتقلين بدون تهمة، والمخطوفين، والمشوهوين، والمهجرين، بالتغيير المنتظر، والتحرير المرتقب، حصل التغيير، واحتفل المرجع الأعلى وأئمة الشيعة والسنة، معا، بالنصر المبين، وأسبغوا على بقائد التغيير حيدر العبادي، كل صفات البطولة والنزاهة والوطنية بما لم يحصل على ربعه زعماء عراقيون خالدون كبار كعبد المحسن السعدون وفيصل الأول وجعفر أبي التمن ومحمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر وفاضل الجمالي وعبدالكريم قاسم، وغيرِهم الكثيرين. لنكتشف، بعد انقشاع الأدخنة، أن كل شيء، في عراقنا الديمقراطي الجديد، عاد إلى أصله، وأن كل حصان رجع إلى زريبته، معززا مكرما، أقوى من قبل وأشد عزيمة، آمنا مطمئنا، ولا حسيب ولا رقيب، وما زالت كلمة الذين لا يعقلون هي العليا، وكلمة العقلاء والفقهاء والخبراء والشعراء والأدباء والنحاتين والرسامين هي السفلى، وما زالت الحكومة تنحني وتقبل الأرض بين يدي صاحب اللحية الملطخة بالحناء، وتتبارك بعباءات المجاهدين، وتستزيد من بركاتها وفتاواها وأوامرها الزاجرة.

فلم تستطع أمريكا والاتحاد الأوربي والنظام العربي وتركيا والنصرة والقاعدة وداعش و(علي خاتم سليمان) و(شركة الأخوين نجيفي) و(وكالة أياد علاوي) و(بيش مركة) كاكا مسعود وفخامة كاكا معصوم أن تمنع (هادي العامري) من ركوب وزارة الداخلية، وهي وزارة الأمن والشرطة والمخابرات، ليضع ملفاتها وأسرارها وقوات أمنها وشرطتها، في حقيبة قاسم سليماني. ثم عرفنا متأخرا أن وزير الداخلية الذي حاز على مباركة حيدر العبادي ونواب الشعب العراقي هو بواب مكتب هادي العامري، ما غيره.

طبعا لم يتوهم أحد منا بأن حيدر العبادي يملك زمام نفسه، ويستطيع أن يتمرد ويكسر جدار البيضة التي حبس نفسه فيها منذ أن أقسم يمين الانتماء لحزب الدعوة، والولاء للمرجعية، والانتماء لسلطة ولاية الفقيه. ولكن كثيرين يحارون ويعجزون عن الفهم، وهم يسمعون تصريحاته النارية التي ” تطلب من إيران احترام سيادة العراق”، ويتساءلون، هل هو شجاع إلى هذه الدرجة، ليقف وقفة العراقي الوطني الجريء والحازم بوجه الملالي الممسكين بخناق الوطن الذي أعلنوا، صراحة ودون حياء، أنهم يعتبرونه مستعمرة ملحقة بالامبراطورية التي عادت عاصمتها بغداد ؟

ومن هذا المنطلق، ورغم أن أخانا حيدر العبادي متعلم ومتفتح ويفهم في الأصول وفي الألكترونيات والكهرباء، فليس في قدرته، حتى لو أراد، أن يُخلص لوطنه وحده، وأن يصبح رئيسا لجميع العراقيين، وأن يمنع كل وصاية من أي وصي، مهما كان، ومن أية بلاد جاء. فالأمر ليس بيده. إنه عبد مأمور لا يملك سوى وعوده المعسولة بالأمن والعدالة وسلطة القانون وتجريد المليشيات من سلاحها، وهو الذي يحكم بترخيص محدد بشروط وقيود غبي جدا من يفكر باختراقها.

وخلاصة القول إن إيران، بنظامها المتعنت المسكون بالتعالي على الشعوب، والمصر على مواصلة سياسة العنف والسلاح وتسليط المليشيات على العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين والبحارنة والفلسطينيين والمصريين، ليست في وارد التعلم من نكستها في اليمن، ولا من هزائم حليفها السوري الأخيرة، ولا من مأزقها في ملفها النووي، وعزلتها الدولية الخانقة، لتعود دولة مسالمة متفاهمة مع جيرانها، تبادلهم الأمن والسلام والمصالح التي كانت متبادلة مزدهرة وواعدة بالكثير من الخير والنماء.

وفي وضعها المعلن هذا من الذي يرى فرقا بينها وبين القاعدة وداعش والنصرة وبدر وحزب الله والعصائب وأمثالها؟. إن الإرهاب إرهاب مهما اختلفت التسميات والشعارات الخادعة. فممارسة العنف كأداة سياسية شر. وتمويله شر. وتصدير الفكر الظلامي الطائفي والعنصري الذي يؤجج الأحقاد بين الطوائف والشعوب شر. والقتل على الهوية شر. وسرقة المال العام شر. وتهريب السلاح والمال إلى جماعات متخلفة متمردة في دول آمنة شر أيضا. واحتلال جزر الغير شر. وتحريك الطوابير الخامسة في الدول الأخرى شر. وإيران تفعل كل هذا وأكثر.

وفي هذا الواقع المحزن الأليم لا أحد يصدق بأن حيدر العبادي غير مدرك لكل هذه الحقائق الثابتة. ألم يكن الأشرف له والأسلم والأكثر مدعاة لاحترام شعبه أن يكون متواضعا في تصريحاته، وأن يفعل ما يستطيع فعله، دون لف ولا دوران، وأن يسير على قاعدة “العين بصيرة واليد قصيرة”؟.

شخصيا حاولت كثيرا أن أرى ولو شيئا واحدا يقنعني بأنه يختلف كثيرا عن نوري المالكي وإبراهيم الجعفري وقائد بدر وجيش المهدي وعصائب أهل الحق وجيش المختار ولواء أبو الفضل العباس.

تأملوا هذه الواقعة. ففي عهد (قائد التغيير) حيدر العبادي، وبموافقته الرسمية، ومباركته، مُنح مرتضي اللعيبي، وهو أحد قادة المليشيات الشيعية، رتبة لواء، ونشرت وسائل إعلام الدولة العراقية صورته وهو يضع رتبة لواء ويرتدي العمامة فى مكتبه الرسمي، وبجانبه علم العراق، وفوق رأسه العلم الإيراني إننا، صدقا، نتمنى أن يفاجئنا الأخ حيدر العبادي بأنه يريد أن يكون بطلا وطنيا حقيقيا يخرج من عباءة حزب الدعوة، وينزع من قلبه وروحه وعقله بقايا طائفية ورثها من حزبه ومن ولائه الطويل لدولة الولي الفقيه، ويقرر بشجاعة واستقلال أن يكون زعيم جميع العراقيين، فيدخل التاريخ، ويصبح حبيب الشعب وزعيمه الوحيد.

ولكن الواقع المفروض عليه وعلى العراق وعلى المنطقة لن يسمح له بأن يفعل ما يريد، حتى لو أراد. ومخطيء من يظن أن الذين امتلكوا السلطة والجاه والمال سيركعون تحت قدميه، ويتخلون عن مواقعهم ومكاسبهم، ويسمحون له بإصلاح ما أفسدته المحاصصة والمليشيات والمخابرات الشقيقة والصديقة الوافدة من خارج الحدود.

إن الفروسية ممنوعة عليه، وعلى سواه، من الآن وإلى أن يشاء الله. ترى لو سكت واكتفى بالعمل، بصمت، وبلا وعود ومبالغات وعنتريات، أما كان أرحم لنفسه ولنا أجمعين.