ما زالت الفرصة متاحة للمراجعة الفكرية والسياسية ومحاكمة التجربة السياسية العراقية في الحكم الإسلامي في ظل الفشل الذي وقعت فيه الأحزاب الكبيرة خلال السنوات الإثنتي عشرة الماضية.
في الديمقراطيات الحديثة أحجام الأحزاب ليست قياسا نسبيا على كسب الجمهور والفوز بقيادته قبل الانتخابات وبعدها. ففي اللعبة الديمقراطية قد تظهر كتلة سياسية صغيرة الحجم لكنها سرعان ما تكتسح الشارع وتقوده نحو الفوز في الانتخابات. والتجارب الإنسانية الحديثة تؤكد ذلك. فمثلا قد سبقت منطقتنا دول أميركا اللاتينية التي ناضلت سنوات طويلة في نيل التحرر من الاستعمار، ثم الدكتاتوريات وخاضت التجربة الديمقراطية ومرارتها حيث هيمنت قوى الفساد باسم الديمقراطية وارتهنت الجماهير سنوات طويلة لهذه الأنواع من الهيمنة المغلفة باسم الديمقراطية.
التشابه النوعي بين تلك الشعوب وبين شعوبنا مهم في استخلاص العبر والدروس لكي لا تعاد كرة الزمن الطويل الذي تخسره شعوب منطقتنا والعراق بصورة خاصة، حيث تمكنت الولايات المتحدة عبر الاحتلال المباشر من التبشير بالنموذج الديمقراطي رغم فجاجة العلاقة بين الاحتلال وبين التبشير بالديمقراطية. ولأسباب عدة ولظروف الاحتلال لم تتوفر الفرصة أمام الطبقة السياسية العراقية لمراجعة العمق التاريخي للحركة الوطنية العراقية، وتفعيل تجارب العالم الديمقراطي الحديث فقد اختزلت الحركة السياسية العراقية بعد 2003 بالتيار الإسلامي الشيعي والسني وأحزابه، التي استثمرت واقع الاحتلال إلى أبعد الحدود لاختطاف الجمهور المكبوت من سنوات الاستبداد والفردية وتحويله إلى مادة للفوز، مما أغلق الآفاق أمام إمكانيات التيار الليبرالي العراقي للدخول الطبيعي في مسرح التنافس الحر النزيه.
ومع ذلك فما زالت الفرصة متاحة للمراجعة الفكرية والسياسية ومحاكمة التجربة السياسية العراقية في الحكم الإسلامي في ظل الفشل الذي وقعت فيه الأحزاب الكبيرة خلال السنوات الإثنتي عشرة الماضية، وفي ظل المستجدات الحاصلة في المنطقة والعراق من ضمنها بعد مجيء الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب أقدم مثالا مفيدا من دول أميركا اللاتينية قد يخدم فكرة أن الأحزاب والكتل السياسية الصغيرة في العراق تستطيع تحت ضغوط سياسية واجتماعية معينة أن تأخذ المبادرة وتدير اللعبة إذا ما أحسنت الأداء السياسي الحديث الخالي من موروثات الأدلجة والمرتبط بحساسية حاجات الجمهور الآنية.
فقد أتيحت لي فرصة العمل الدبلوماسي كسفير لبلادي لمدة سبع سنوات في فنزويلا بشراكة دول مثل كولومبيا وبيرو وغواتيمالا، وهذه الدول تشترك بعناصر التاريخ السياسي والاجتماعي الواحد. كنت مراقبا ومتعايشا ومتابعا وناقدا في بعض الأحيان لنشاطات زعامات ذلك الحراك المهم تحت خيمة الديمقراطية التي مضى عليها في بعض تلك البلدان خمسون عاما.
ورغم عدم وجود الاحتلال العسكري الأميركي هناك لكن الهيمنة الأميركية على سياسيي أميركا اللاتينية كانت قوية ونافذة، وكذلك الهيمنة على النفط الفنزويلي عبر شركة بيدي فيزا الوطنية. وهم سياسيون يتشابهون من حيث النوايا والأغراض بسياسيي العراق الجدد. استهوتهم السلطة وغرقوا في ملذاتها ونسوا الجمهور الذي أوصلهم إلى الحكم، وتقاسم الحكم في فنزويلا عبر خمسين عاما حزبان رئيسيان؛ العمل الوطني والديمقراطي المسيحي، لكن النتائج كانت الفقر والحرمان لعموم الشعب، حتى أن عاصمة النفط كاراكاس كان يحيطها حزام الفقر الملاييني المسمى حزام الصفيح حيث البطالة والمخدرات والجرائم.
ومع ذلك كانت أميركا تقول “الديمقراطية هي دواؤكم فلا تغادروها إلى المجهول” ويخيفونهم بالعودة إلى الدكتاتورية. ووصل الحال بالشعب الفنزويلي أن كفر بالديمقراطية، فلا توجد هناك عمائم أو أحزاب دينية أو نزعات طائفية أو عرقية تحرف المواجهة السياسية المباشرة، لكن الأميركان كانوا يقولون بأن “هذا الشعب جاهل ويحتاج إلى المزيد من الوقت ليتعلم الديمقراطية”. مصالح الأميركان هناك كانت الحفاظ على الحديقة الخلفية لهم من القطب السوفييتي خلال زمن الحرب الباردة.
وفي أحد الأيام التقيت بشاب فنزويلي عسكري اسمه هوجو شافيز الذي أصبح في ما بعد رئيسا منتخبا لبلاده. كان هذا الشاب ومجموعة صغيرة من رفاقه يتقدون حيوية للعمل من أجل الوطن متشبعين بالخط الوطني اللاتيني للمحرر سيمون بوليفار ويؤمنون بقدرتهم على قلب المعادلة السياسية. بعد أيام من ذلك اللقاء فوجئت به على شاشة تلفزيون القناة الحكومية يقرأ البيان العسكري الأول لثورة الجياع، لكن القوات الأميركية تدخلت فورا، وأجهزت على الانقلابيين وأفشلت محاولتهم وسجن شافيز مع رفاقه. لكنه لم يعدم أو يسحل مثلما يحصل ببلداننا. وبعد أشهر قليلة تشاء الظروف أن يتولى الرئاسة المؤقتة صانع دستور فنزويلا رافائيل كالديرا حيث أطلق سراح شافيز الذي أخذ ينشط ضمن اللعبة الديمقراطية واستطاع كسب جمهور الشعب الجائع المحروم ثم اكتسح الانتخابات وفاز بالرئاسة.
وهنا لا أريد من هذا المثال الدعوة إلى الانقلاب العسكري لأن ذلك أصبح مستحيلا في العراق أو غيره، لكن الفكرة الرئيسية هي أن هيمنة الأحزاب الكبيرة لم تقدم إنجازا للجمهور بل مسيرة مكللة بالفشل المتواصل وفسادا هائلا استهدف المواطنين في قوتهم وحياتهم ورفاههم وأمنهم. إضافة إلى تأثير الإرهاب الحديث المتمثل بداعش وإلى المداخلات الإقليمية والدولية التي تستهدف العراق وكيانه، وجميع الفرضيات المنطقية والسياسية تقول بأنه لا يمكن الاستمرار بهذه الحالة.
فالماكنة السياسية في العراق بحاجة إلى محرك جديد وجاذبية شعبية تتجاوز الطائفي والديني والمصلحي، ولا تجعل شعارات الإصلاح لأغراض تخدم الأحزاب الكبيرة نفسها. وهناك إمكانيات هائلة لدى شعب العراق إذا أحسن استخدامها وفق اللعبة الديمقراطية السلمية فإنها قادرة على إحداث نقلة بين الجمهور اليائس من السياسيين وبين الكتلة السياسية الجديدة.
الحقيقة المركزية المهمة التي تشكل عنصرا أساسيا للعمل هي حالة الإحباط الشعبي العام وردود الفعل القوية تجاه هيمنة الأحزاب الكبيرة، ومحاولة إعادة إنتاج نفسها بأساليب عدة من بينها استثمار المناخ التعبوي الجديد في الانتصار على تنظيم داعش الإرهابي للتوظيف السياسي رغم ما يحيط ذلك من تنافس وصراع حاد حول من يستثمر النصر.
مع ذلك فإن المعركة المقبلة هي سياسية وليست طائفية، وتسويق الصراع في العراق على أنه طائفي لم يعد قائما بعد أن عمل الفساد والمصالح على تداخل الخنادق بين اللاعبين بمعادلة الصراع الطائفي الذي أصبحت ورقته محترقة.
وهناك حقيقة مهمة هي أن الأحزاب الكبيرة وفي لحظات الاستقرار الأمني النسبي بعد داعش تنكشف أمام المواطنين، وهناك استحقاقات هائلة تتراجع أمامها ولا تغطيها التبريرات العامة بإفلاس ميزانية الحكومة أو متطلبات إعادة إعمار المدن المهدمة أو غيرها. كما أن الانتصار العسكري على داعش ليس ملكا لتلك الأحزاب، فأصحاب النصر هم من ضحوا بدمائهم من أبناء الوسط والجنوب التي امتزجت بدماء أهل الموصل ومعاناة النازحين والمشردين.
كما أن أميركا وإيران تقولان إن لهما النصيب الكبير في هذا النصر المقبل. سمعت قبل أيام مثالا من بلد ديمقراطي عريق هو فرنسا حيث استقال وزير الداخلية على خلفية تعيينه لابنتيه في إحدى الوظائف خلافا لمعايير التوظيف العامة. هل يمكن مقارنة هذه الحالة وغيرها كثير بما يحصل في العراق من خرق للقوانين واستغلال للمناصب والنفوذ ومصادرة حقوق الناس، وعدم تسهيل معاملاتهم القانونية إلا بالرشوة وقانونها الساري.
ولهذا فالفرصة الحقيقية هي أمام الأحزاب والكتل السياسية الصغيرة الناشطة حاليا بين الناس. لكن أمام هذه التنظيمات والحركات الوطنية العراقية وظائف مهمة ليس من أجل هدف الوصول إلى السلطة البرلمانية أو الحكومية، وإنما من أجل الوصول إلى الناس وكسب ثقتهم في ظل هذه الضبابية في الواقع السياسي العراقي وحالة القلق مما سيحصل غدا وقبل الانتخابات. ومن بين هذه المهمات:
أولا، إعلان هوية هذه الأحزاب والتنظيمات وبرامجها وفق السياقات العامة والتفاعل اليومي مع المواطنين، ومحاولة إعادة ثقتهم بالحراك السياسي المتميز.
ثانيا، أن تكون لدى هذه التنظيمات أولويات المطالب الملحة وعدم الاستغراق بالشعارات، خصوصا في تبني مطالب أهالي المحافظات المنكوبة من احتلال داعش.
ثالثا، النبذ العلني وتحريم الطائفية السياسية منهجا وأدوات سياسية وإعلامية.
رابعا، إشاعة السلم الأهلي ونبذ الثأر والكراهية.
خامسا، التنافس السلمي الحر في الانتخابات المقبلة والاعتماد على الإمكانيات الذاتية وعلى حب وتعاطف الجمهور.
نقلا عن العرب