لقد اعتاد العراقيون على السيد مقتدى الصدر وهو على ما هو عليه من المزاجية المفرطة والمفاجآت الانقلابية التي يتحول فيها من النقيض إلى النقيض إلى الحد الذي لم يعودوا معه يثقون بما يقرره اليوم، لأنهم يتوقعون أن يتراجع عنه صباح الغد.
والمشكل أنه، بمواصفاته الشخصية التبسيطية التسطيحية هذه، أصبح أبرزَ اللاعبين المؤثرين على الساحة السياسية العراقية التي أتقن الاحتلال الأمريكي إنباتها، ثم تولى الاحتلال الإيراني سقيها وحصادها.
وبأول جريمةٍ قتلٍ قام بها أنصارُه في النجف ترتكب في العراق الأمريكي 2003، تنفيذا لأوامره المباشرة وبإشرافه، وراح ضحيتها عبد الحميد الخوئي النجل الأصغر للمرجع الشيعي السابق، تحول مقتدى إلى رقم سياسي ومليشياوي صعب في السلطة التحاصصية الجديدة.
ويحار المرء في أمره. فهو لا يتوقف عن الحديث عن الوطنية العراقية واستقلالية القرار وتحريم التبعية للدول الخارجية، ولكنه في الوقت نفسه، وكلما ضامه ضيم، يطير إلى إيران، ويجلس مُقرفصا خاشعا متصدّعا تحت أرجل كرسيّ الولي الفقيه.
وهو لا يكف عن المطالبة بمحاربة الفاسدين، ولكنه يشنّ حملات قمع وقتل على المتظاهرين المطالبين بمحاكمة الفاسدين. وحكايات غزواته المسلحة بالخوذ الزرقاء والعصي والرصاص الحي على المتظاهرين في بغداد والنجف والناصرية شيء لا ينكره لا هو ولا أتباع تيّاره المسلحون.
وآخر صرعاته المثيرة كانت يوم 15 تموز/يوليو الماضي حين أعلن انسحابه من الانتخابات القادمة، بخطابٍ ناري بَدا لمُشاهديه وكأنه قرارٌ حازم وحاسم لا رجعة فيه، هذه المرة، “حفاظا على ما تبقى من الوطن وإنقاذاً للوطن الذي أحرقه الفاسدون ومازالوا يحرقونه” ولأن “ما يحدث في العراق هو مخطط لإذلال الشعب العراقي”، حسب بيان الانسحاب.
إلا أن عراقيين كثيرين تنبأوا بعودته القريبة إليها، بأسرع مما يتوقعه كثيرون. وقد فعل. فلم يطُل به الوقت حتى فاجأ محبيه ومُبغضيه، معا، بخطاب ناري آخر بشّرهم فيه بتراجعه عن قرار المقاطعة، وبعودته إلى المشاركة في الانتخابات القادمة، وبتصميمٍ وقوة مليونية، على حد قوله، وذلك لأأن عدداً من القادة العراقيين الذين يثق بهم لأنهم كانوا ممن دعوا للإصلاح قد وقّعوا له على وثيقة “شكلت له أملاً في إمكانية تخليص العراق من الفساد”، مؤكدا أنها “جاءت متماشية مع رغبات الشعب العراقي في تحقيق الإصلاح، ودافعاً إلى العودة للمشروع الانتخابي“.
ولكن بمجرد الاطلاع على مضمونها وأسماء موقعيها يتأكد أنها ثرثرة فارغة وكلام عن السلاطين، وواحدةٌ من مئات الاتفاقات والعقود التي كتبت بماء في العراق الأمريكي، أولا، ثم في العراق الإيراني بعد ذلك. فهي ليست سوى حجة يبرر بها مقتدى عودته عن قرار الانسحاب.
فمن بين بنودها السبعة عشر هناك خمسةٌ لو تمّ تنفيذها لتحوَّل العراق، بعد إعلان نتائج الانتخابات بأيام، إلى سويد ثانية أو سويسرا، ولصحى المواطن العراقي من نومه وقد أصبح أغنى من أمير سعودي وشيخ إماراتي وكويتي، وأكثر مرحا وصحة وعافية وأناقة، ولعاد الدينار العراقي ثلاثة دولارات، ولَوصل تمرُ البصرة ولبن أربيل والسمك المسكوف إلى أقصى مدن الدنيا، نكاية بماكدونالد وكنتاكي وبيزا هوت.
فقد تعهد الموقعون على الوثيقة، وهم مسعود البارزاني ومحمد الحلبوسي وهادي العامري وحيدر العبادي وعمار الحكيم، بما يلي:
– تعديل الدستور العراقي خلال مدة أقصاها ستة أشهر من انعقاد أول جلسة لمجلس النواب الجديد. ضمان نزاهة وعدالة الانتخابات بعيداً عن أي تدخلات أو تأثيرات خارجية.
– رفض أي تدخل في شؤونه الداخلية.
– حصـر السلاح بيد الدولة وإعادة هيبة الدولة وإنهاء كافة المظاهر المسلحة.
– تشكيل لجنة عليا ذات صلاحيات موسّعة وبالتنسيق مع السلطة القضائية لتدقيق ملفات الفساد في الحكومات السابقة منذ عام 2003، ومحاسبة المقصرين من خلال إجراءات شفافة وواضحة لدى الرأي العام، ويمنع تدخل الكتل السياسية للدفاع عمّن يثبت عليه الفساد.
ولم يمض على هادي العامري، وهو أحد أبرز الموقعين على الوثيقة، سوى يومين حتى صرح علنا، في ملتقى الرافدين، قائلا “نحن الذين ثبّتنا الدولة، نحن الدولة”، و“الحشد الشعبي تحت قيادة إمامنا خامئني، يقاتل ويدافع عن مشروع الثورة”.
والملاحظ أن أهم حراس السلاح المنفلت وأصحابه والمجاهرين بالولاء للأجنبي، لم يوقعوا على الوثيقة، وهم القابضون الحقيقيون الأقوياء على أقفال الدولة ومفاتيحها.
سئل عنها نوري المالكي فقال “أجهل طبيعة الضمانات التي قدمتها بعض الكتل السياسية، للصدر، ولم أطلع عليها ولم أوقع عليها”.
سؤال أخير. هل حصل، مقتدى ورفاقه الموقعون على الوثيقة، على موافقة مسبَّقة من الحرس الثوري الإيراني على أن يغادر العراق، بعد الانتخابات القادمة مباشرة، دون تأخير، ويتخلى عن أحزابه وفصائله المسلحة وجواسيسه المزروعين في وزارت الخارجية والمالية والدفاع والداخلية والتعليم والتجارة والبلديات والإعاشة، عن طيب خاطر، ويعيد العراق إلى أهله دولة مستقلة موحدة قوية ذات هيبة وسيادة وأمن ونزاهة وعدالة ورخاء وسلام؟.