عندما قامت الحكومة بزيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين زيادات كبيرة ( قياساً على ماكانت عليه سابقاً) في الفترة التي كان فيها السيد باقر جبر صولاغ وزيراً للمالية ، كان السبب المعلن وراء تلك الزيادات هو لتمكين الشعب العراقي من التمتع بخيراته التي حرمه منها النظام السابق ، وكما اعلن ذلك السيد صولاغ في لقاء تلفزيوني .
في تلك الفترة كانت اسعار النفط عالية جداً وكانت الزيادات لاتمثل مشكلة امام الحكومة ..
قال السيد الوزير ايضاً : انه تعمد الاعلان عن الزيادات المقترحة من قبل وزارة المالية قبل عرضها على مجلس الوزراء وذلك لاحراج المجلس واجباره على الموافقة عليها..
الرواتب كما هو معروف تسمّى : الالتزامات الحتمية ، اي انها واجبة الدفع بغض النظر عن اي شيء آخر.
وجود اعدادكبيرة من الموظفين والمتقاعدين ومنتسبي الاجهزة السابقة المنحلّة والقوات المسلحة والاجهزة الامنية والشركات السابقة المتوقفة عن العمل ، ( كل هذه الجهات والمؤسسات دون استثناء فيها الحقيقيين والفضائيين) ، جعل فاتورة الرواتب تستحوذ على معظم الموازنة الحكومية .
ادى ذلك الى دفع الحكومة ولتجنب غضب الشارع ، الى تعليق والغاء وتقليص كل تخصيصات للنشاطات التنموية المختلفة .. ناهيك عن استحواذ الفساد على جزء مهم من تلك التخصيصات مع ضآلتها..
تفسير هذا السلوك الحكومي يمكن ان يكون اقتصادياً او ان يكون سياسياً.
اقتصادياً بمعنى منح المجتمع قوة شرائية كبيرة تتحول الى طلب مرتفع على كل شيء حيث ان الحرمان من الاستهلاك خلال العقود الماضية يجعل الميل الحدّي للاستهلاك مرتفع لدى الفرد العراقي.
هذا الطلب يفترض ان يحفز الاستثمار الخاص ( المحلي والاجنبي) للتوسع في اقامة المشاريع التي تلبي الطلب على مختلف السلع والخدمات..
ذلك التوسع في الاستثمار يخلق المزيد من فرص العمل ويعوض الاستيراد ويوفر العملة الصعبة ..
تشغيل المزيد من الايدي العاملة يعني مزيد من القوة الشرائية وبالتالي المزيد من التوسع …وهكذا يستمر النمو في الناتج المحلي الاجمالي ( النمو الاقتصادي) وتستطيع الحكومة ان تجني المزيد من الرسوم والضرائب من مؤسسات الاعمال المزدهرة والنشطة ..وتقلل من اعتماد الموازنة على عوائد النفط.
ماحصل هو ان التوسع الداخلي في الاستثمار من قبل راس المال المحلي والاجنبي ،قد تم قمعه وعدم السماح له للتوسع بحرية، نتيجة الفساد والبيروقراطية وغياب الأمن وضعف الدولة …
كذاك فأن شركات ووكالات الاستيراد تضخمت واصبح لديها نفوذ ضخم على مؤسسات صنع القرار وتداخل عملها مع البنوك وسوق العملة الاجنبية وتحويلات الاموال الى الخارج.
النتيجة كانت استيرادات ضخمة من دول متعددة استنزفت موارد العراق من العملات الاجنبية ونقلت الأثر التنموي من اقتصاد العراق الى اقتصادات تلك الدول المصدرة للعراق.
اقامت تلك الدول مشاريع ضخمة مخصصة للتصدير للعراق في قطاعات الصناعة والزراعة وحتى النقل البري.
وقد اعلن وزير الزراعة السابق في لقاء تلفزيوني على قناة التغيير في ،اواخر عهد السيد عادل عبد المهدي ،
ان سفراء تركيا وايران وغيرها زاروه في مكتبه للمطالبة بفتح الاستيراد للمواد التي اكتفى العراق منها ذاتياً واوقف استيرادها.. قائلين له : ان لدينا مشاريع ضخمة أُقيمت لغرض التصدير للسوق العراقية وسوف يلحق بنا ذلك ضرراً كبيراً …وطالبوه بالتراجع عن قراراته …
طبعاً ذلك السلوك يعتبر تدخلاً سافراً وخطيراً في الشأن الداخلي العراقي ولكن لم يكترث به أحد لأن الجميع مشغول بحفلة النهب العظيمة ووليمة الفساد الضخم ..
( لانريد الدخول في احتمالات الضغوط الامنية على الحكومة لاجبارها على التراجع)…
اما الدافع السياسي المحتمل وراء الاستعجال في اطلاق الزيادات فهو قد يكون الحصول على قاعدة شعبية وتأييد جماهيري على حساب مستقبل التنمية..
الآن الحكومة تقترض من الداخل والخارج لدفع رواتب تذهب لشراء منتجات مستوردة من دول اخرى تجني ثمار السياسة الغبية التي تم اتباعها في العراق ..
من اسوأ وأخطر انواع الدين الحكومي هو ذلك الذي يذهب للاستهلاك للجيل الحالي ويشكل عبئاً ثقيلاً على الاجيال المستقبلية…
لاتستطيع الحكومة الافلات من هذا الفخ الخطير ولازالت التعيينات السياسية مستمرة..
التعيينات التي تبرعت بها حكومة السيد عادل عبد المهدي رفعت كلفة الرواتب الشهرية بنسبة خمسين بالمئة تقريباً حسب تقرير صادر من وزارة المالية..
والسيد الكاظمي قام قبل اسابيع بتعيين خمسمائة متظاهر وهو جالس معهم في الشارع !!
قد يعترض أحد ما بالقول ان الناس تحتاج الى الرفاه ، وهذا صحيح ولكن الرفاه لايأتي عن طريق الديون ..
واذا اراد السياسيون تحقيق مكاسب سياسية وتحسين مكانتهم لدى الجمهور فأن افضل طريقة هي دعم التنمية ومكافحة الفساد واشاعة العدالة بين الجميع…
دخل متواضع للفرد لكنه مستدام افضل من وهم الغنى الذي لايمكن استمراره..