يقول رالف والدو اميرسون ، استاذ الشرف للعلوم السياسية في جامعة ولاية سان فرانسيسكو الامريكية، (ان البشر عظيمون لا بسبب اهدافهم ولكن بسبب تحولاتهم).
التحولات غالبا ما يراد بها ان تصنع التاريخ وتصنع حضارة ، فالحضارة هي ثمرة كل جهد يقوم به الانسان لتحسين ظروف حياته، وهي غالبا، اي التحولات، ما تصاحب تطورات العقل البشري ، وهي ايضا تصاحب تغير العادات وانماط السلوك والاراء بتغير الاحوال والظروف، فلهذا لايمكن للتحولات ان تنجح اذا ما اهملت تطوير القوانين والمؤسسات التي تقود عملية التحول.. وهنا نستطيع ان نبني تصوراتنا حول التحولات التي يعيشها الافراد والمجتمعات، حيث ان في كل حالة تحول تظهر لنا فجوة بين، ما كان وسيكون، وهذه الفجوة تسمى الفجوة الحرجة، تتسع او تضيق هذه الفجوة تبعا لفهمنا للمرحلتين السابقة والاحقة، المرحلة السابقة تكون دائما واضحة بسبب اننا عشنا هذه المرحلة بكل ما فيها من ايجابيات وسلبيات ولاننا حتما، خلصنا الى تحديد الدروس المستخلصة منها، فهي تكون واضحة لنا، ولكن الخطورة تكمن في المرحلة اللاحقة لانها غالبا ما تكون مبنية على احلام او تصورات قد تقترب او تبتعد عن الواقع او عن امكاناتنا في تنفيذها، وكذلك الاسباب وراء هذا التحول، احيانا يكون التحول اختياريا وهذا التحول يكتب له النجاح لكونه يكون مسبوقا برؤيا واضحة وتخطيط دقيق ويكون امتدادا للمرحلة الحالية ولكن بتغيرات مخطط لها في بعض مفاصل الحياة، لهذا تكون الفجوة اضيق والعبور الى الحالة الجديدة اسلس واسهل ومضمونة العواقب الى درجة كبيرة، ولكن احيانا اخرى تفرض علينا التحولات ونجبر عليها، وتكون مصحوبة في الغالب بكثير من الفوضى والتدمير لمفاصل مهمة من حياة الدولة والمجتمع، وهذه الحالة تكون غير مضمونة العواقب لعكس الاسباب التي نوهنا عنها، فهي غير مخطط لها والضفة الاخرى التي يفرض علينا الانتقال لها مجهولة المعالم، وقد لاتتوفر لها الاليات والانماط التي تحتاجها المرحلة في الضفة الاخرى من كوادر بشرية او مستلزمات مادية، التي تشكل البنى التحتية للمرحلة الجديدة.
في التحولات، اختيارية كانت ام اجبارية، يتم الاستعانة بايجابيات مرحلة ما قبل، وهذه تساعد كثيرا على تقليص الفجوة الحرجة وجعل مسألة الانتقال والتحول عملية سهلة، ولكن في كثير من الاحيان يتم عن جهل او عدم تخطيط نقل السلبيات ايضا الى المرحلة الجديدة وبهذا نكون قد عملنا كمن يريد ردم الفجوة باخذ التربة من جانب الفجوة الايمن ويضعه في الجانب الايسر، فهو هنا لايردم الفجوة بل يبقيها كما هي.
التحولات الاختيارية دائما تكون ذات قيادة وادراة جيدة وفريق يعمل قبل وبعد عملية التحول، قبل العملية بالتخطيط ورسم معالم الطريق وبعد التحول لادارة الخطط وتنفيذها على الواقع.
ما حصل في العراق ابان الاحتلال الامريكي عام 2003 هو عملية تحول اجبارية، فرضت بارادة خارجية (الاحتلال الامريكي)، الهدف المعلن لها هو التحول من النظام الشمولي الى محاولة تاسيس لنظام ديمقراطي، تمت قيادة هذا التحول قوى خارجية لاتمت للواقع العراقي بصلة واستخدمت ادوات واليات غير متجانسة مع مجتمع يفتقر في كثير من مرتكزاته على فهم الديمقراطية من حيث الممارسة والتطبيق، فاحدث هذا الامر فجوة كبيرة قاد الى انهيار كامل لكل مقومات الدولة والمجتمع، واحدث فوضى طالت كل مفاصل الحياة.
بعد مضي اربعة عشر سنه، ثمان سنوات منها 2003-2010، كان للاحتلال الامريكي دور مباشر في قيادة ادارة العراق، لم تستطع النخب التي ارتكز عليها الاحتلال بالنهوض بالعراق، وانتاج قيادة تصلح لان تقود الوطن الى الضفة الاخرى، بل جل ما حصل هو صفقات تتم بين النخب المتنافسة باستخدام كافة انواع العملات السياسية المختلفة، ولم تستطع ان تبني مؤسسات الدولة الديمقراطية الاساسية الثلاث ، التشريعية والتنفيذية والقضائية، على اسس سليمة بل انها حتى تجاوزت هذا الامر بانها لم تستطع ان ترسم ملامح علاقة نزيهة شفافة ومتينه بين هذه السلطات. وكان لقوتي الاحتلال الرئيسيتين الايرانية الامريكية الذراع المهيمن الاكبر في صياغة عملية سياسية فاشلة بكل المقاييس المحلية والاقليمية والدولية. نخلص من كل ما تقدم ان النخب التي قادت البلد في ظل الظروف التي اشرنا اليه لم تمتلك، اولا البرنامج الوطني الجامع لكل المكونات المجتمعية سياسية كانت ام اثنية ولم تستطع ايضا بلورة برنامج، تستخلصه من الاخطاء التي حدثت خلال مسيرتها في قيادة البلد. وثانيا هي لم تستطع مغادرة عقدها الموروثة والمكتسبة خلال سنوات معارضتها، او موالاتها للنظام السابق. فالمعارضون استمروا في اجهاض التجارب ومقومات الدولة السابقة وبذلك لم يستثمروا الكفاءات الوطنية الموجودة، والتي كانت بالتأكييد ستكون، ركيزة مهمة من ركائز الدولة العراقية، ثم الموالين ايضا اصروا ان تستمر بعض الممارسات، وان يكونوا ومن وراء ستار شفاف يفضح نواياهم في التستر وحماية مجرمي ومفسدي المرحلة السابقة، كل هذا ساعد على اهدار اي فرصة يمكن لها ان تبني حالة من الثقة المتبادلة بين النخب التي بيدها مقاليد الامور، الثقة التي كان يمكن لها ان تنتج مشروعا وطنيا، بدلا من مشاريع ومفاهيم المحاصصة التي كرست بعدها التخندق الطائفي، ثم القومي واخيرا المناطقي..
ان من اهم وابرز ما ينتجه التحول القسري الغير مبرمج في حياة الامم والبلدان هو توسيع الفجوة الحرجة التي سرعان ما تقود الى ضعف الدولة، وعدم سيطرتها على الكثير من مرافقها ومنها حدودها، وهذا بالضبط ما حصل في العراق فقد اصبح العراق ارضا” مشاع لكل من هب ودب وساعد هذا على دخول وتجمع كافة قوى الارهاب داخل الاراضي العراقية مستفيدة من ارضية سوء الادارة والاحتقان
الطائفي والمذهبي والفساد المالي والاداري ونقص الخدمات ، الذي سببته ادارة المالكي ومن قبله ادارة الجعفري ومجلس الحكم بقراراته التي اقل ما يمكن ان يقال عنها انها قرارات لا علمية ولاعقلانية، والتي اسست لنظام حكم لايمكن ان يكتب له النجاح في دولة ذات مجتمع مثل المجتمع العراقي. وسلطة الحاكم المدني الذي اصدر قرارات مفصلة على مقاس البعض ليتم على اساسها اقصاء نسبة كبيرة من ابناء الشعب وتهميش نسبة اخرى وتسليط سيوف بتارة على رقاب اخرين، ومن خلال التأسيس لسلطة قضائية يقودها افسد شخصية قضائية مرت بتاريخ العراق، والكثير من القرارات والاحكام التي صدرت في كثير من القضايا ويعرفها العراقيون تثبت ما اشرنا اليه.
كلنا يعلم بان المؤسسات البشرية تتطور ببطئ، وغالبا ما يتطلب الامر سنوات طوال لتوجيه السلوك الانساني توجيها منظما نحو وجهة مقصودة، كان للعراق ما قبل الاحتلال مرتكزات دولة قوية من خلال اداراتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكانت هذه الادارات تقاد بكفاءات عراقية ذو درجة عالية من المهنية والخبرة، وهذه نحسبها من ايجابيات مرحلة ما قبل، ثم بدلا من ان يتم بناء جسور الثقة بين الماضي والحاضر، تم استهداف هذه المؤسسات بشكل تعسفي واجراءات اما انتقامية او اقصائية او بمسميات اخرى كثيرة كانت من ابرز سمات توسيع الفجوة الحرجة للتحول الى الديمقراطية، حل الجيش العراقي واعتماد تشكيلات مليشياوية مناطقية عشائرية، ساعدت على انتشار الفوضى وادت الى طغيان ظاهرة اخرى خطرة الا وهي الطائفية. ولم تستطع النخب التي سيطرة على مقاليد البلاد من خلال الاحتلال الامريكي وبصحبته، ان تتجاوز عقدتيها التي كانت تعيشها وهي عقدة الانتقام وعقدة الانتفاع الشخصي فأصبحت هاتان العقدتان حجر الزاوية التي اسست لتنامي ظاهرة الفساد الاداري والمالي التي القت ظلالا ثقيلة على عملية التحول الى الديمقراطية وتوسيع الفجوة بين ما كان وما يراد به ان يكون. خلاصة القول ان اهم ما يحتاجه العراق اليوم هو مشروع وطني واضح المعالم والابعاد جامع لكل شرائح ومكونات الشعب العراقين تشارك به كافة الكفاءات والنخب الوطنية، متجاوزة نزعة الطائفية ومتسامية على العقد الموروثة والمكتسبة.