اثبتت التجارب في العديد من البلدان وعلى مختلف الانظمة السياسية بان الحاكم الفاسد لا يصلح الفساد خاصة في دولة نخرتها هذه الافة في كل مفصل من مفاصلها.
العراق شهد الايام الماضية مظاهرات واحتجاجات على النظام السياسي برمته لاسباب عديدة، يقف في مقدمتها الفساد الاداري والمالي، والسلطتين التشريعية والتنفيذية للاسف الشديد ما تزالان عاجزتين عن ايجاد حلول مقنعة قادرة على التعامل مع المطالب المشروعة للجماهير الغاضبة، والسبب في ذلك هو عدم وجود جدية حقيقية من الطبقة الحاكمة لمعالجة الازمة من جذورها واكتفت الحكومة كعادتها بالاختباء وراء حلول ترقيعية لا ترتقي لخطورة الحدث ومتطلبات المتظاهرين.
ان مشكلة العراق اليوم تحتاج الى مراجعة تاريخية دقيقة للاساليب والخطط السياسية والاقتصادية في البلدان التي نجحت في القضاء على الفساد والبطالة وتحقيق تنمية اقتصادية خاصة وان اغلب تلك الدول لا تمتلك الموارد الاقتصادية والمالية التي يمتلكها العراق لكنها استطاعت وبفضل القيادة النزيهة والناجحة في تخطي تلك العقبة العصية.
في ماليزيا مثلا تمكن الرئيس التاريخي مهاتير محمد من بناء اقوى اقتصاد اسيوي في بلده طيلة سنوات حكمه وبعد تخليه عن السلطة بدأت مؤشرات الفساد تعود ثانية واخذت ماليزيا تخرج عن المسار التنموي والاقتصادي الذي سارت عليه ولم تنفع جيمع المحاولات السياسية في تغيير هذا التحول لان هذه المحاولات جاءت من شخصيات ساهمت بشكل كبير في تفشي الفساد وما كان من الشعب الا الاحتجاج والمطالبة بعودة ماهتير محمد على رأس السلطة وتحقق ذلك وعادت الامور الى نصابها بعد ان امر باعتقال الفاسدين وتفعيل القوانين ومازال الرجل يعمل مع فريقه على تشذيب الدولة وتصحيح المسار.
وفي سنغافورة تمكن الزعيم لي كوان يو من النجاح في بناء دولة من العدم مستثمرا كل الامكانيات المتاحة على الرغم من بلاده لم تمتلك الاموال او الموارد الاقتصادية لكن عقليته العملية وشخصية الواقعية واصراره على محاربة الفساد مكنته من تحويل سنغافورة الى دولة تقف في مقدمة البلدان الاقتصادية، وهذا الواقع ينطبق ايضا على رئيس أوروغواي السابق خوسيه موخيكا، الذي أُطلق عليه لقب “أفقر رئيس في العالم”، بسبب أسلوب حياته شديد التقشف، والذي قاد حرب طاحنة مع الفساد وانتهت بانتصاره على الفاسدين وبناء الدولة.
اليوم الحكومة العراقية وكذلك الطبقة السياسية الحاكمة عاجزة عن وضع الحلول بسبب فقدان الرؤية وغياب الجدية في انهاء ملف الفساد الذي ابتلع الدولة.
ان تكرار وجوه الفساد الحكومي واللجوء الى لعبة الكراسي وتدوير الوزراء والمسؤولين الفاسدين احد اخطاء المرحلة الحالية، والشعب غير مقتنع بممارسة هذه اللعبة ولم يعد يثق بالهيئات التقليدية والاجهزة الوهمية العديدة التي تعمل تحت عنوان النزاهة والرقابة ومحاربة الفساد، المواطن هو المؤشر الاول والاخير لوجود الفساد وتحديد توغله في مفاصل الدولة وهو ما تجلى واضحا في مطالب المتظاهرين.
الوضع في العراق لن يسير كما خطط له القابضين على السلطة بعد ثورة الغضب الجماهيرية ولن تتمكن الدولة من حفظ هيبتها مالم توكل مهمة محاربة الفساد الى قيادة نزيهة وغير ملوثة بطمع السلطة، واناطت هذه المهمة لشخصية تمتلك من الشجاعة والدعم الوطني ما يمكنها من انتزاع البلاد بجميع مؤسساته من المحسوبية والمحاصصة وتفريغ المؤسسة من عناصر الفساد والقيام بثورة اصلاحية شبيه بالثورات التي قامت بها البلدان التي اشرنا الى تجاربها الناجحة اما منح هذه المهمة الى فاسد ليحارب الفساد فانها خطوة ستزيد من خطورة الموقف وتضاعف الغضب الشعبي وتفقد العراق فرصة حقيقية للنهوض من جديد.
ان التظاهرات في العراق ليس بالامر الجديد وفي السنوات الماضية خرجت العديد من التظاهرات والاحتجاجات على تردي الخدمات وتفشي الفساد وتفاقم البطالة وسوء الخدمات خاصة في مجال الكهرباء، ولكن للاسف جميع المطالب الجماهيرية تبددت بسياسة الحلول الانية التي اتبعتها الحكومات والبرلمان في السنوات الماضية لامتصاص الغضب الشعبي دون الالتفات الى حلول ستراتيجية طويلة الامد لذلك فان التظاهرات ستستمر وستتكرر طالما تغيب الحلول الحقيقية وهي خلق فرص ثابتة للشباب وزيادة متوسط دخل المواطن وتوسيع افاق التنمية الاقتصادية وكل ذلك يتحقق من خلال تهيئة البيئة الاستثمارية والخدمية والتجارية ومنح فرصة للقطاع الخاص للعمل ودعمه من قبل الحكومة ليكون البديل الفعلي للقطاع العام وتوفير الضمانات القانونية التي تدفع سوق العمل باتجاه القطاع الخاص وكذلك من خلال تاسيس هيئة وطنية للتقاعد خاصة بالعاملين بالقطاع الخاص بهدف ضمان الخدمة التقاعدية لموظفي القطاع الخاص اسوة بنظيره في القطاع العام، وخلق توازن لعلاقة ضامنة بين المستثمر والموظف، وهذه الخطة ستنفع على المستوى البعيد والمتوسط بعيدا عن الحلول الانية.